q

لايخفى أن مفهوم الحداثة Lamodernite؛ يعد من المفاهيم التي أخذت مساحة واسعة من الغموض المفاهيمي على الخارطة الفكرية حتى على مستوى بنية الفكر الغربي الذي أنتجه؛ لذلك من الطبيعي أن يمثل إشكاليةً في بلداننا مابين اختزاله في دائرة الزمنية الراهنة، وبين من يرى أنه (مفهوم فلسفي مركب قوامه سعي لاينقطع للكشف عن ماهية الوجود).

وكثير من المفكرين والباحثين؛ يجدون تطابقاً بين مفهومي الحداثة والنهضة، رغم أن منهم من حاول الفصل بين المفهومين ومنهم (برهان غليون) الذي يرى أن الحداثة تتجسد في أنماط الحياة اليومية بكل تمظهراتها وتجلياتها، بينما النهضة كنظرية محاولة لـ (عقلنة الحداثة) الداخلة في أنماط الحياة العربية من خلال إخضاعها إلى المعايير الأخلاقية والإجتماعية.

وأكثر مأزق وقع فيه مفهوم الحداثة في بلداننا؛ هو في اتخاذه طابع "المحاكاة الجوفاء لمظاهر المدنية في الغرب ونماذجه الحضارية وهذه المظاهر لا تنم عن حالة حضارية أو حداثية تنبثق من صميم المجتمع وتتكون في رحمه الحضاري. وغالبا ما يظهر أن هذه النماذج الحضارية تتعارض مع النسق الحضاري العربي في أصوله وتجلياته الذاتية. وهذا يعني أن استجلاب مظاهر الحداثة من الغرب قد يؤدي إلى مزيد من الضياع والاحتضار.

وقد يعني ذلك، وهذه هي الحالة على الأغلب في عالمنا العربي، تعايش منظومتين اجتماعيتين متنافرتين في آن واحد هما: مجتمع تقليدي يمارس حياته وفق معايير وقيم تقليدية، ومجتمع حداثي يعيش وفق أحدث المعايير العصرية دون أن يتمثل روح هذه المعايير ويتشرب من تدفقاتها الذاتية. ووفقا لهذه التصور فإن التحديث العربي في التاريخ المعاصر يأخذ صورة متناقضة مع الحداثة الحقيقة"1.

في العالمين العربي والإسلامي، تناول مفهوم الحداثة علماء ومفكرون من خلال عدة جزئيات وعناصر، غير أن أكثر ماتم تناوله في الحداثة كان خاضعاً لسياقات محكومة بظرفها الزمني والمكاني، يبتعد عن أية رؤية مستقبلية، ربما بسبب الحذر من مأزق اختلاط المفاهيم والقيم الناتج عن تقليد النماذج الغربية التي بشرت بالمصطلح قبل غيرها.

غير أن الإمام المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره)؛ مخر عباب المصطلح وخاض فيه بحثاً وتأليفاً دون أن يترك للحذر غير المبرر منفذاً لكتاباته ورؤاه بشأن الحداثة وعناصرها.

الوعي بالمستقبل

ولعل قضية النظرة المستقبلية، واستشراف القادم من أهم عناصر الحداثة عند الإمام الشيرازي الراحل، حيث يشدد على أهمية الوعي بالمستقبل والتخطيط لصناعته ؛ لمواجهة أية امتدادات انحرافية تأتي من جغرافيات أخرى ترى الحداثة من منظار لايتفق مع رؤيتنا، بل يلزم من وجهة نظر الإمام الراحل التخطيط بعناية ودقة وعدم الانكفاء والتشاؤم فيقول : " معرفة المستقبل أمر واجب في الجملة، والتخطيط له واجب آخر؛ لأنهما مقدمة الواجب ــ وهي وإن لم تكن كذلك شرعاً إلا أنهما لازمة عقلاً ــ وبهما يتم تحقيق أغراض المولى جل وعلا المٌلزمة، وهذه تعد أول خطوة في هذا الاتجاه. فاللازم معرفة المستقبل بكل أبعاده وجزئياته، فبدون المعرفة لايستطيع الانسان أن يحسن التخطيط للمستقبل، وبدون حسن التخطيط ؛ لايملك الإنسان حلولاً له، وربما أوجب المستقبل سقوطه"2.

وهنا تأكيد واضح على أهمية دور العقل؛ لتحقيق الغايات المُلزمة بما ينسجم والخصوصية الإسلامية التي ينطلق منها الإمام الشيرازي في تحليله للحداثة وعناصرها، فالحداثة هي إيجاد الحلول الناجعة للمشكلات الإنسانية بروحية معاصرة، والمعاصرة تتجلى بأبهى تجلياتها في التخطيط لصناعة المستقبل المنسجم اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وكل من خالف هذه الجزئية وابتعد عنها سيوجب المستقبل له سقوطاً حضارياً مدوياً.

كما ويشدد على ريادية المستقبل في صوغ الحداثة الأصيلة التي لاتحاكي المظاهر الفارغة من المحتوى المعرفي، والتي تلامس القضايا من السطح دون العمق، بل تنفذ إلى أدق أجزائها. ولن يقوم بمثل هذا الدور من الريادة أفضل من طبقات المثقفين والواعين بإشكاليات مرحلتهم وزمانهم، المستعدين لمغامرة الصراع مع التحديات المستقبلية، والعمل على فك طلاسمها، وينبغي عدم الاستهانة بالدور حتى وإن كان صغيراً في زمنه، يقول الإمام الشيرازي: " فالتغييرات الصغيرة التي حولنا تصبح بمرور الزمان كبيرة، حالها حال الأمطار التي تبدأ بقطرات، ثم تصبح جداول، وتنتهي إلى سيل عارم، وبذلك الإختيار يصبح الفرد مصاناً، ومحصناً لاتزلزله صدمة المستقبل، ولاتثنيه متغيراته"3.

إذن، الحداثة بالإيمان بالمستقبل، والتخطيط لصناعته تجعلنا في مأمن من المنزلقات التي قد نكون ضحاياها مالم نحسن الوعي وعدم الاستشراف المستقبلي الذي سيقودنا في النهاية إلى جفاف فكري ومعرفي، ونكون بعيدين عن ركب التطور الحضاري، أسارى لقيم لاتنسجم مع واقعنا ومحيطنا فتختلط الرؤى، وتنشب الصراعات التي قد تتطور إلى حروب كارثية وآثار سلبية يمكن لنا تلافيها فقط بقدرتنا على الربط بين حداثة المفاهيم وعدم الانسلاخ من القيم الأصلية.

.....................................................................................
1: علي وطفة، مقاربات في مفهومي الحداثة ومابعد الحداثة، بحث منشور على الشبكة المعلوماتية.
2: الإمام محمد الشيرازي، فقه المستقبل، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع، ص25
3: نفس المصدر السابق، ص29

اضف تعليق