q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

تواضع للعمل وهِبْ مشروعك للناس

قراءة في محاضرة صوتية لسماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره-

"لو كان طلبة العلوم الدينية في الآفاق الشيعية متواضعين، كان لدينا اليوم عشرات الآف من المساجد والمدارس والحسينيات والمكتبات، إن كل عالم دين بامكانه تشييد مسجد او حسينية او مكتبة، اذا ما شمّر عن ذراعيه، فالأمر بحاجة الى تواضع، إن التواضع عامل استقطاب للجماهير، أما التكبّر والتعالي فانه عامل تنفّر الناس عن عالم الدين، ولذا نلاحظ جميع العلماء الذين عاصرتهم منذ المرجع الكبير السيد ابو الحسن الاصفهاني، ومن جاء بعده، سواءً في النجف الاشرف او في كربلاء المقدسة، وحتى مراجع الدين الذين كانوا يأتون للزيارة الى كربلاء، كانوا جميعاً متواضعون، وفي كل شيء؛ في ملبسه ومسكنه وايضاً في علاقاته مع شرائح المجتمع؛ من الصغير الى الكبير، لذا لابد من التواضع امام العمل، والعمل إنما يلتف حول المتواضعين".

التواضع أم عدسات الكاميرات...؟!، إنه من الصفات الحسنة القابلة للنمو في نفس الانسان، تمثل حاجة ملحّة في العلاقات الاجتماعية وتساعد على نجاحها، فالانسان المتواضع بين اصدقائه و أقاربه وعموم محيطه الاجتماعي، هو الانسان الناجح في الحياة، وقد عزز علماء الاخلاق هذه المعادلة بتشبيههم الانسان المتواضع والناجح بالنبتة القريبة من مصادر النمو في التربة (المتواضعة في الارض)، وكلما كانت أدنى وأقرب الى هذه المصادر كان مستقبلها أكثر اخضراراً وثمارها اكثر ينعاً، أما إن كانت مرتفعة عن الارض والتربة، لا تلبث أن تتحول الى مجرد عود يابس قابل للكسر في أي لحظة ثم تزول عن وجه الحياة.

ولذا علينا أن نعرف هذه الحقيقة سلفاً؛ بان المتواضع إنما ينفع نفسه قبل الآخرين، وكلما أخذت هذه الصفة الحميدة مدياتها في أفعاله وسلوكه ونظام حياته، كلما زاد رفعة بين الناس وقرب من النجاح في مختلف نواحي حياته، وهذا ما يؤكده سماحة الامام الشيرازي الراحل في المقطع الصوتي من محاضرة له حول شروط نجاح التبليغ في أي مكان، مشيراً على أن التكبّر والتعالي ليس فقط ينفّر الناس عن الانسان العالم او المبلّغ، وإنما يحبط ما يقوم به من أعمال مهما كانت.

فالبعض يتصور – وربما الكثير- أنه دائماً بامكانه توفير فرص النجاح والتفوق والتقدم بشكل ذاتي، وهذه نزعة سائدة نلاحظ إثارتها من قبل علماء النفس والخبراء في شأن التنمية البشرية، ليس دائماً بهدف التنمية والتطوير، بقدر ما هو لعلاج الحالات النفسية المتأزمة وتجاوز ما يعانيه البعض من حالات سلبية مثل اليأس والتشكيك والاحباط وغيرها، وهذا ما يدفع الكثير الى تسجيل انجازاتهم ثم نشرها على الملأ بهدف "الإعلام" واحياناً "الإعلان"، وتحاشياً للحديث عن الدوافع، فان الاستغراق في نشر الالبومات الخاصة بمشاريع خيرية او ثقافية، واستخدام الكاميرات و "المايكات" بشكل مفرط، ربما يقرّب يرفع صاحبه تدريجياً نحو التعالي، وبنفس القدر يبعده عن صميم الواقع الذي يعيشه الناس، وتحديداً الجهات المستفيدة من المشروع.

إن "التواضع للعمل" خطوة رائعة يبتكرها الامام الشيرازي الراحل لضمان النجاح والتفوق، لذا نراه يربط بين هذا النوع من التواضع وبين الاعداد المفترضة للمراكز الثقافية والتنموية في بلادنا، بل وفي جميع انحاء العالم، من مساجد او حسينيات او مكتبات ومراكز دراسات وأبحاث، وحتى مؤسسات تربوية واقتصادية وغيرها، بمعنى إن الشحّة الماثلة امامنا لهذه المراكز، حتى في عقر دارنا يعود – بالضرورة- الى عدم اتصافنا بالتواضع لما نقوم به من افتتاح مكتبة هنا أو مركز ثقافي هناك، او حتى هيئة بسيطة للشباب وهكذا...

فاذا كانت هذه المراكز والمؤسسات غير ربحية، كما يؤكد ويصرّح الجميع، وأنها لخدمة الصالح العام، فلابد للقائمين عليها ان يعرفوا سلفاً أن عامل نجاح مشاريعهم يتحقق بالدرجة من خلال الناس الذين سيجدون مصالحهم في هذه المراكز، وأنها هي التي تثقف على العدل والمساواة والتعايش والحوار، وتدعو الى الحرية وحقوق الانسان وغيرها من المفاهيم والقيم السامية، وذلك من خلال تفاعلهم مع هكذا مراكز ومؤسسات وايضاً دعمها بمختلف الاشكال.

وإذن؛ فان المشاريع والاعمال، مهما كانت كبيرة في حجمها والنفقات المليونية عليها، وعميقة في دورها ومهمتها، فان صاحبها يجب ان يكون الشاب والشابّة بإبداعاتهم و قدراتهم، قبل أن تكون لشخص معين او مجموعة اشخاص يقفون في الظل ويديرون العمل بعيداً عن هموم الناس وظروفهم ومستوى وعيهم وثقافتهم، حتى نتخلص الى الأبد من إشكالية "المشاريع الشخصية"، بل الشخصانية بشكل عام، التي ابتليت بها حتى التيارات الفكرية والثقافية في الساحة الاسلامية، وكانت الفيروس الذي انتشر تدريجياً وتسبب في نهاية تلك التيارات والحركات.

وأجدني ملزماً – في الختام- لأن أذكر الامام الشيرازي الراحل، مع قرب ذكرى رحيله في الثاني من شهر شوال، كونه خير مصداق لمعادلة النجاح بالتواضع، فقد شيّد وابتكر وبنى وألف ونظّم وفعل ما لم يفعله غيره من العلماء ومراجع الدين، ربما طيلة قرون من الزمن، ولكن لم نقرأ اسمه في مشروع ما، او صورة له في مكان ما، إنما الذي خلّد ذكره في القلوب وعلى ألسن الاجيال، ذلك التواضع أمام كل ما فعله لهم، من مستوصفات خيرية وصناديق للقرضة الحسنة، ومكتبات ومدارس وحفلات التزويج الزفاف الجماعي، هذا فضلاً عن تشييد الحوزات العلمية والحسينيات والمساجد والمراكز الثقافية في جميع انحاء العالم.

اضف تعليق