q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

الطاقة الفكرية واستعادة سمعة الإسلام في العالم

قراءة في محاضرة صوتية للإمام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره-

"لو بذلنا قليلاً من الطاقة والفكر والهمّة، يمكننا الارتقاء بسمعة الإسلام في جميع أنحاء العالم. والداعم الرئيس لنا؛ الله –تعالى- وقد وعدنا بذلك في آيات عدّة منها: (إن الله من ورائهم محيط)، نقل لي الشيخ عبد الحميد المهاجر من الولايات المتحدة، وقد ذهب لإقامة المجالس الحسينية هناك – وذلك خلال سبعينات القرن الماضي- أن هنالك إقبال منقطع النظير على الإسلام في اميركا، وقد جاء عدد غفير من مدن وولايات بعيدة لحضور مجلس الشيخ المهاجر، وطلب بعضٌ منهم بأن يذهب اليهم ويقيم المجالس الحسينية هناك.

ومن المثير ايضاً؛ وجود المسيحيين بين الحضور المندفع الى هذه المجالس، رغبة منهم للتعرف على الإسلام، ما هو...؟! ومن هو نبيه؟ وما هي أحكامه، وقيمه، وكتابه المقدس؟

وفي العاصمة البريطانية، لندن، وبعد افتتاح المركز الاسلامي، إقيم احتفال ضخم بمناسبة ذكرى مولد الامام الحسين، عليه السلام، حضره حشد غفير من الناس من مسلمين وغير مسلمين.

في عديد بلاد العالم تسود الحريات الفردية والعامة، وفي مقدمتها حرية الرأي والعقيدة، وكتب الشيخ المهاجر ذات مرة يقول: بامكانك شراء اذاعة كاملة في اميركا كما لو انك تشتري سيارة!

هذه الحرية استفاد منها المسيحيون كما استفاد منها اليهود وحتى البوذيون ايضاً في الولايات المتحدة، بل في سائر البلاد التي تتوفر فيها حريات كهذه، بينما نحن – للأسف- لم نستفد من هذه الفرص والاجواء.

الى جانب الدور التبليغي لنا في بلاد العالم لنشر الإسلام وإعلاء كلمة الله في الأرض، علينا ان نعرف أن جميع سكان العالم لهم حقٌ علينا، لأن الاسلام دين عالمي، ولا يختصّ بقومية او طائفة او جماعة بعينها، وهذه الحقيقة يؤكدها القرآن الكريم في الآية المباركة: {وما أرسلناك إلا كافة للناس}، ويقول النبي الأكرم: "بُعثت للأحمر والأسود والأبيض".

نجاح التجربة في البلاد الاسلامية أولاً

من ابرز مميزات البلاد الغربية، تبنيها مبدأ الحرية للأفراد والجماعات وكل ما يتعلق بحقوق الانسان، مستوحين ذلك من مبادئ الثورة الفرنسية (1789)، على أن لا يكون الانسان عبداً للملك والنبلاء من حوله أو الطبقة الارستقراطية، وايضاً للكنيسة ورجالها وأحكامها الجائرة.

ثم جاءت البحوث والدراسات في اوقات لاحقة حول حدود هذه الحريات وسماتها لتتصدر دساتير هذه البلاد ضمن المنظومة الفكرية في العالم، وكانت تشمل بدايةً؛ اليابان شرقاً ثم اوربا الغربية، وفيما وراء المحيط؛ الولايات المتحدة وكندا، ثم درجت بلاد أخرى في العالم على الاقتداء بهذه البلاد وتبني المبدأ كلٌ حسب قدرته الاستيعابية وفق الهيكلية السياسية الحاكمة.

وفي الوقت الذي عدّ الغربيون هذا المبدأ الكبير، إحدى ركائز حضارتهم الجديدة، ومنطلقاً لما عُرف بالثورة الصناعية في ظل النظام الرأسمالي واقتصاد السوق، وتمكن الانسان هناك من التملك والتطور بشكل سريع، فان مبدأ الحرية في هذه البلاد الناهضة والحيوية، شجّع علماء المسلمين ومفكريهم لأن يغتنموا هذه الفرصة الذهبية لاستثمار فكري وثقافي يتنافسون فيه على نشر ما هو أفضل وأكثر مصداقية لحياة الناس في العالم، ومن بين الرواد في حمل هذا اللواء؛ الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- الذي انطلق بما لديه من امكانات وقدرات محدودة، نحو المسلمين في البلاد الاسلامية أولاً؛ ثم بسط جناحيه على البلاد الغربية وتحديداً؛ بريطانيا والولايات المتحدة في سني السبعينات، سعياً لتحقيق الطموح الحضاري العتيد بأن يعيد للإسلام مجده وحقيقته في اوساط الحضارة الغربية ولدى شعوب العالم.

ولكن! كيف يتحقق هذا الطموح الحضاري العتيد؟ وكيف نوصل حقيقة أن الاسلام هو صاحب الحضارة الأول، وهو صاحب الفضل على الانسانية وما وصلت اليه من تقدم وتطور في المجالات كافة، وهو الأجدر بأن يسود؟

في كتابه "الغرب يتغير"، يتوقع سماحته وهو في قم المقدسة بأن "الغرب سيعود إلى تصحيح بعض مناهجه لتتطابق مع الفطرة و العقل في القريب العاجل، و ربما خلال عقد واحد من الزمن... و الإسلام بما انه الدين الوحيد الذي ينتهج طريق الفطرة بما للكلمة من معنى، حيث إن كيفية الخلقة مستندة إلى الله، و حيث أن سنن الله لا تتغير، فانه من المتوقع أن يتجه الغرب نحو الإسلام بالإضافة إلى تصحيح جملة من مناهجه و توفيقها مع الإسلام"، ثم يردف بالقول مشيراً الى ضرورة قيادة هذا التغيير الحضاري من قبل "رجال مخلصون بالمستوى اللائق والمطلوب"، بأن هذا الامر يستدعي "تطبيق الإسلام في منطقة من بلاد المسلمين ليكون أنموذجا صالحا يحتذي به الآخرون، فان وجدت تلك التجربة الإسلامية الحسنة فقد بلغنا نصف التغيير".

ان الانتشار السريع للإسلام في بلاد الغرب خاصة، وفي سائر بلاد العالم بشكل عام، جاء بدايةً من الفراغ الروحي والثقافي دفع بالشعوب الى اعتناق الدين الاسلامي لما فيه من قيم ومبادئ تضمن له العيش الكريم والعلاقات الاجتماعية المتوازنة والرؤية المنطقية للاشياء وللحياة، بعيداً عن التناقضات والضبابية والتشكيك القاتل، بيد ان الخطوة المطلوبة في المرحلة اللاحقة؛ تكريس هذا الفهم والايمان في النفوس، وإلا فان الاعتناق ربما يتحول يوماً ما الى انفصال وتراجع، فلا ضمانات في هذا المجال، وهذا يأتي مما كان يدعو اليه سماحته في غير مناسبة وعلى صفحات اكثر من مؤلف، بأن يكون هنالك عمل في اتجاهين اساس؛ الاول: الخطاب العميق والشامل، والثاني: ايجاد المصاديق العملية على ارض الواقع، وهذا تحديداً هو الذي يجعل الناس في كل مكان بالعالم يقبلون طواعية على الإسلام.

وفي كتابه "طريقنا الى الحضارة" يحذر سماحته من مغبة الانجرار الى البحوث السطحية من على المنابر فيما يتعلق بالعقيدة والتاريخ والاحكام الشرعية، فكلما تطور فكر الانسان واتسعت مدارك فهمه وعقله، احتاج الى التعمّق اكثر في الامور كافة لاكتساب المزيد من المعرفة والعلوم والآداب بما يفيد حياته الجديدة.

وليس في فقط في المثال الذي يأتي به سماحته في هذا الكتاب عن احد خطباء المنبر، وإنما نلاحظ الامر مستمراً حتى اليوم ومن خلال مواقع التواصل الاجتماعي حيث تُطرح أمور وقضايا جدلية وخلافية تبحث في الشبهات وكل ما يثير في النفوس الشك والريبة والإحباط، ظناً من البعض أنها نوعاً من "التنوير" او الخروج من "الاحكام المسبقة" او "البحث عن الحقيقة" وغيرها من المسوغات لخلق واقع ثقافي يثير النزعات والمشاعر السلبية، اكثر مما يغير الواقع الفاسد والمرير الذي تعيشه الشعوب، او يسعى لاستخراج الايجابيات وتنميتها.

لنبشر بما يفتقده العالم

عندما يقول الامام الشيرازي أن الاسلام من حق كل انسان في العالم، فلابد من معرفة ما يريده الانسان وما يوائم ظروفه ويلبي حاجاته، وبما أن الحضارة مكونة من عنصرين: الحضارة العلمية والحضارة العملية، وأن العالم المتقدم حالياً تعكّز على التحضر العملي – المادي أكثر من اعتماده على التحضر العلمي، فان الاسلام مشتمل على العنصرين دائماً وعلى طول الخط، فالحضارة العلمية "عبارة عن جمهرة هائلة من المعارف الإلهية المودعة في القرآن الكريم والموجودة في السنة المباركة من روايات رسول الله والأئمة المعصومين، عليهم السلام، أما الحضارة العملية "فهي عبارة عن الرصيد الضخم، الذي بأيدينا من السيرة العملية للنبي الأكرم وأهل بيته الطاهرين، والتي استطاعت بقوتها وفاعليتها، أن تفتح على البشرية جمعاء أبواب حضارة جديدة عملاقة، وحضارة عملية نزيهة من النواقص، بريئة من المعائب والمظالم، سليمة من الاستبداد والطغيان، مليئة بالمحبة والرحمة، مشفوعة بالأمن والإيمان، مقرونة بالسلم والسلام".

ومن الجدير ذكره أن العالم الغربي تحديداً، اكتشف في وقت متأخر الفراغ الروحي والمعنوي، وتأثيره الخطير على مسيرة الحضارة لديهم، مع العلم أن الغرب لم ينهض من أسس حضارية، إنما استفاد من تجارب "الحضارة الهيلينية" التي توقفت مع انطلاق الثورة الصناعية او ما يسمى بعصر التنوير في اوربا والتي أبعد الكنائس ورجال الدين عن العلم والمعرفة الى الأبد، لذا احتاروا في مصدر استلهام المفاهيم المعنوية، مثل التعاون والتكافل ونبذ الكراهية وغيرها، لذا نلاحظ انطلاق المشاريع الخيرية والانسانية تصدر من مشاهير السينما والرياضة واصحاب المليارات ممن ليس بالضرورة يطبقون تعاليم الكنيسة، كما أنهم عجزوا عن ايجاد علاج ناجع لظاهرة التعصّب العرقي والقومي، في اوربا والتي جرت على هذه القارة وعلى العالم الحروب والمجازر.

ان الانسان في الغرب وفي أي مكان بالعالم محب لأخيه الانسان بالفطرة السليمة، كما يأنس به وبأفكاره و رؤاه، وبحكم العقل فان استجلاء الآراء وتقليب وجهات النظر مما يفيد الانسان في حياته، وهذا ما يؤكد عليه سماحة الامام الشيرازي في "طريقنا الى الحضارة" ضمن حديثه عن أهم طرق نشر الحضارة الاسلامية في الاوساط الاجتماعية وعلى المستوى العالمي، بأن يتم "فتح المجال للحوار العلمي الهادف والنقاش المنطقي غير المنحاز وغير المتعصّب".

فاذا وجد الانسان؛ سواءً في القارة الآسيوية او الاوربية أو في اميركا الجنوبية وفي أي مكان بالعالم، المجال الرحب لإبداء رأيه و افكاره وتصوراته عن الحياة وما يعيشه، بمعنى أنه وجد حقّه في ظلال الحضارة الاسلامية، بدليل القيم والمبادئ التي تحملها هذه الحضارة منذ تأسيسها على يد النبي الأكرم، وحتى اليوم والى يوم القيامة، فهي تبقى ناصعة ونقية لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وأي دخيل مستحدث من الفكر والثقافة، لن يرقى الى التأثير على هذه المنظومة المتجانسة.

وهذا تحديداً ما يعانيه العالم اليوم من تلاطم الافكار والتصورات البشرية التي تدخله في أزمة فكرية وسياسية ولا تخرجه إلا في أزمة اخرى أشد عتمة، وليست مقولة "الارهاب" إلا دليل صارخ على ما نذهب اليه من محاولة لغلق جميع منافذ التفكير والانغلاق على استنتاج واحد يفضي الى الحكم على الاسلام بأنه داعية على التطرف والكراهية والحياة غير السوّية، وفي هذا يجد الانسان الغربي تحديداً اكثر من غيره، بانه يدفع ثمن تبني هذه الفكرة المغلوطة باضطراب حياته وطبيعة علاقاته مع المجتمعات والأمم الاخرى،وحتى خسائر في الارواح في معركة لا دخل له فيها .

اضف تعليق