q

تقييد حرية الإنسان في أي بعد من أبعاد الحياة في غير ما يضره ضرراً بالغاً، أو يضر غيره بالنسبة إلى الأمور الحقيقية خلاف فطرة الإنسان، بالإضافة إلى أنه خلاف تشريعات السماء، وتحميل على الإنسان تحميلاً مكرراً إذ:

أولاً: إن الإنسان يقيد بسبب ذلك مما هو خلاف إرادته وانطلاقه.

وثانياً: إن الدولة التي تقيد الإنسان حريته لا بد لها من إخراج جملة من الناس، وهم الموظفون المكلفون بهذه القيود من دائرة الإنتاج إلى دائرة الاستهلاك، وبذلك تحمل مصارفهم على الأمة الذين هم المنتجون.

قانون الجنسية مثالاً

مثلاً يُسأل إن قانون الجنسية وتوابعها بأن يكون لكل فرد جنسية تعرف خصوصياته، ما فائدتها، نعم مضارها كثيرة:

أولاً: إنها تسبب تقييد الإنسان.

وثانياً: إضاعة وقته في شيء لا يرتبط بحاجاته.

وثالثاً: كثرة الموظفين الذين يطبقون هذا القانون على كل الناس ليقيدوا الناس، كمن يأخذ من إنسان بالجبر ديناراً ليشتري القيد ويكبله به.

ورابعاً: إضاعة المال، حيث يأخذ الموظف من الناس ثمن الجنسية.

وخامساً: يأخذ تقنين هذا القانون بفروعه وقت الذين هم في مجلس الأمة أو مجلس الأعيان أو مجلس الوزراء أو التابعين لها من سائر القوى التنفيذية، فهؤلاء أيضاً بالنسبة إلى هذا التقنين يخرجون من الإنتاج إلى الاستهلاك، بالإضافة إلى أنهم يأخذون أجرة عملهم من الأمة، لأنهم يعيشون على موائد الأمة.

وسادساً: إن القانون وحده لا يكفي إلاّ إذا وضع للمخالف العقاب، والعقاب الموضوع للمخالف فيه محذور كما ذكرناه في الخامس.

وسابعاً: إن نفس العقاب يقيد من حرية الأمة، كما يسبب تلف أموالها.

ثم ما فائدة هذا القانون بعد هذه المآسي والجرائم التي ترتكبها الدولة في حق الأمة.

الدولة تجيب بأن الفائدة هي النظم ومعرفة المجرمين لو أجرموا وما إلى ذلك.

والجواب: هل النظم حسن مطلقاً أو في الجملة، إن قلتم النظم حسن في الجملة نقول فهل هذا النظم من الحسن، فإن القضايا الجزئية لا يمكن الاستدلال بها.

وإن قلتم حسن مطلقاً، قلنا فلماذا لا تنظمون خروج الناس من بيوتهم ودخولهم إليها، وكيفية لباسهم وأكلهم وشربهم، وسفرهم وحضرهم، ونومهم ويقظتهم، إلى ألف شيء وشي، فقولوا للناس يجب أن تخرجوا الساعة الثامنة صباحاً، وترجعوا الثانية عشر ظهراً، وهكذا عصراً وليلاً، وكلوا كل يوم من أيام الأسبوع شيئاً خاصاً، واشربوا كل يوم كوبين أو ثلاثة أكواب من الماء، أحدهما في الساعة الفلانية صباحاً والثانية في الساعة الفلانية عصراً، والثالثة في الساعة الفلانية مساءً وهلم جراً، أليس في كل ذلك نظم وتحديد للمآكل والمشارب والملابس وما أشبه وتوفير للصحة.

أما جوابكم الثاني بأن الجنسية وما أشبه تقل من الجرائم لإظهارها المجرمين فيجتنبوا الجرم.

فالجواب: إن القانون زاد الجرائم لا أنه نقصها، إذ من طبيعة الكبت توليد الجريمة على القانون، على المثل المشهور الذي يقول (الضغط يولد الانفجار).

وإن قيل: إنا لا نتمكن من رفع قانون الجنسية، لأن الدول لا تقبل السفر إليها إلاّ بالجنسية.

قلنا أولاً: كلامنا في القانون العالمي للجنسية.

وثانياً: إذا اضطرت الدولة إلى ذلك يمكن أن تجعل في الحدود مراكز لتزويد المسافرين بورقة بسيطة فقط، وإني أذكر قبل خمسين سنة حينما لم تكن هذه الأوراق في إيران ولا في العراق، كان العراقي يسافر إلى إيران، والإيراني يسافر إلى العراق بدون أي شيء.

نعم البهلوي الأول قبل خمسين سنة تقريباً وضع سجل الأحوال موضع التنفيذ، وكان المسافر الإيراني إذا أراد أن يزور العراق إن أحب أن يذهب من طريق (كرمانشاه) كان في هذا البلد مركز يأخذ منه نصف تومان إزاء إعطائه ورقة بسيطة مكتوب عليها اسمه واسم من معه فقط، ويُلصَق على الورقة طابع ذو خمسة قرانات، وكذلك إذا أحب أن يأتي من طريق (عبادان)، ومن لا يجب لا يذهب إلى ذلك المركز، أو يسافر من غير هذين البلدين، حتى نظمت لهذا التقييد الجديد قصائد وأشعار في التنديد به، ومن جملتها هذا الشعر الذي نعربه:

خمسة قرانات أعطينا لصاحب التذكرة

وقد أدينا بذلك قرضاً بلا سبب.

كما أن أحد أقربائنا كان ينقل لي أنه سافر من العراق إلى الحج ومرّ في طريقه إلى لبنان وسوريا وفلسطين والأردن ومصر، باعتبار أنها أماكن الزيارة، أو لجهة ركوبه البحر حيث كان السفر بالآبال والسفن، قال: ولم يتعرض لنا أحد في طول الطريق رواحاً ومجيئاً، ولم يكن في ذلك الوقت اسم عن الحدود أو عن الجنسيات أو ما أشبه ذلك، وكانت السفرة قبل ثمانين سنة تقريباً.

قال: إن السفر من العراق إلى الحج في طول هذه الطرق كانت كالسفر من النجف إلى كربلاء، ومن كربلاء إلى الكاظمية، والحكومات في هذه البلاد وإن كانت مختلفة إلاّ أن مثلها كانت مثل المحافظين في ألوية متعددة، حيث إنه ليس بينها حدود ورسوم وجواز وعشور وما أشبه.

ولو قال شخص بأنه يلزم جعل الحدود والجنسيات بين المحافظات، فالذي يجاب به عنه هو الجواب عن قانون الحدود والجنسية بين البلاد المختلفة والحكومات المتعددة.

والحكومات في بلاد الإسلام إنما روجت هذه القوانين والتقييدات بسبب أمرين:

الأول: إن حكام هذه البلاد أرادوا تقليد الغرب بزعم أن الغرب كما تقدم في الصناعة فهو متقدم في كل شيء، وأنه يجب أن يؤخذ منه كل شيء حتى يتقدم الإنسان، وبذلك صار مثلهم مثل ذلك الغراب الذي نسي المشيتين.

الثاني: لأن الحكام كانوا عملاء، كما لا يزالون إلى اليوم، وقد أجبرهم الأسياد أن ينفذوا هذا الشيء في بلدهم لتقييد المسلمين وعدم إمكانهم من التحرك، بالإضافة إلى أن المستعمرين أرادوا تلون كل العالم بلونهم حتى يحفظوا سيادتهم، في بحث طويل ليس هذا موضع ذكره.

وقد حكي عن جملة من علماء إيران في تبريز وشيراز وغيرهما أنه لما وضع البهلوي الأول قانون سجل الأحوال وما أشبه صعدوا المنابر وحرموا أخذ سجل الأحوال واستدلوا لذلك بأنها قيود استعمارية لا تخدم سوى المستعمر في ضرر الإسلام والمسلمين.

لا يقال: فبلاد الغرب أيضاً ملتزمة بالجنسية والحدود.

لأنه يقال: أولاً: هذا ناشئ عن جهلهم، وهل الإنسان يتبع الجاهل، وقد ذكرنا في كتاب (الصياغة الجديدة) الفرق بين الحريات الإسلامية والحريات الغربية، وأن الحريات الإسلامية أكثر بكثير من الحريات الغربية.

وثانياً: إن القيود عندهم أكثر من القيود عندنا تسعة وتسعين بالمائة، كما يلاحظه الإنسان الذي يقارن بين قيودهم وقيودنا، وإذا أخذ الإسلام بالزمام في يوم ما بإذن الله سبحانه وتعالى ألغى كل هذه القيود وأرجع حريات الناس إلى حيث قررها الإسلام.

ومثل الكلام في الجنسية الكلام في سائر القيود التي جاء بها الغرب وعملاؤه في بلاد الإسلام، على التجارة والزراعة والصناعة والسفر والإقامة والعمارة وحيازة المباحات وإبداء الرأي وغيرها.

لا يقال: فكيف وصل الغرب إلى القمر.

فإنه يقال: بما تبقى لديهم من الحريات لا بالقود، فالمقيد لا يتمكن من السير على الأرض فهل يتمكن من السفر إلى آفاق السماء.

ولتوضيح مواضع الخطأ في هذا الأمر نشير إلى تفسير الجنسية في بعض الموضوعات السياسية، قال:

(الجنسية بصفة عامة هي رابطة سياسية وقانونية بين الشخص ودولة معينة تجعله عضواً فيها وتفيد انتمائه إليها، وتجعله في حالة تبعية سياسية لها، ويسمى من يتمتع بهذه الرابطة وطنياً، أما الذي لا يتمتع بها فهو الأجنبي، ولجنسية الفرد أهمية كبرى في تحديد حقوق الشخص وواجباته، فللوطني حقوق أكثر وعليه التزامات أكثر من الأجنبي، فمثلاً الحقوق السياسية قاصرة على الوطنيين كالخدمة العسكرية، والوطنيون لا يجوز إبعادهم عن أقليم الدولة بعكس الأجانب).

(وكما تكون الجنسية للأشخاص الطبيعيين أي الأفراد فإنها تكون أيضاً للشخصيات الاعتبارية كالشركات، والقانون التجاري في أغلب الدول يعترف بجنسية الدولة للشركات المساهمة التي تؤسس على قليمها، والتي يكون مركزها الأصلي فيها، والذي يضع قواعد الجنسية في كل دولة هو قانونها الداخلي، وتختلف الدول فيما بينها في القواعد التي تنظيم بمقتضاها جنسيتها).

(واستبدال الجنسية عبارة عن استعادة الجنسية والدخول فيها من جديد بعد أن يكون الشخص قد فقدها وفقاً للقانون، وللاستبدال يفترض شخصاً كانت له جنسية معينة وفقدها بسبب من الأسباب ثم يسترجعها ثانية، وتشريعات أغلب الدول تبيح استبدال الجنسية في حالات وبشروط معينة، ومن الأمثلة التقليدية أنه يجوز للمرأة التي فقدت جنسيتها بسبب زواجها من أجنبي أن تستعيد هذه الجنسية بعد انحلال الزواج، على أن التشريعات تختلف فيما بينها من حيث سهولة أو صعوبة عملية استبدال الجنسية، ففي بعض الحالات يكون الاستبدال حقاً للشخص إذا توافرت فيه شروطه القانونية، وفي حالات أخرى يكون الاستبدال منحة تتوقف على تقدير الدولة، وهناك حالات أخيرة لا يمكن فيها استعادة الجنسية إلاّ عن طريق التجنس وطبقاً لشروطه واجراءاته وأحكامه).

(والجنسية المكتسبة هي الجنسية الثانوية، والجنسية المختارة تطلق على الجنسية التي يكتسبها الفرد بعد الميلاد، وأهم الأسباب التي تؤدي إلى حصول الفرد على جنسية مكتسبة هي التجنس، وهو يتحقق عندما يستقر الفرد نهائياً في دولة غير وطنه الأول، فتعطيه هذا الدولة جنسيتها إذا طلبها وكان مستوفياً لشروط معينة أهمها أن يكون قد أقام على إقليمها لمدة لا تقل عن فترة معينة تختلف الدول في تحديدها، والزواج فقوانين بعض البلاد تقرر اكتساب الزوجة لجنسية زوجها بمجرد زواجها منه على أن يكون لها الحق في رفض هذه الجنسية والاحتفاظ بجنسيتها الأصلية إذا رغبت في ذلك، وقوانين بعض الدول لا تجعل للزواج أثراً على جنسية الزوجة الأصلية فلا تكتسب جنسية زوجها إلاّ إذا طلبت ذلك، وتتجه القوانين في بلاد أخرى الى أن الزواج لا يؤثر في جنسية الزوجة الأصلية لا بصفة تلقائية ولا بناءً على طلبها إلاّ أن الزوجة إذا أرادت الحصول على جنسية زوجها فيجب عليها أن تحصل عليها من طريق التجنس وطبقاً لشروطه وأحكامه).

(أما الجنسية المتعددة فتتحقق هذه الحالة عند ما يجد الفرد نفسه متمتعاً بجنسية أكثر من دولة واحدة وفقاً لقوانين هذه الدول، ومثال ذلك أن يتمتع الفرد بجنسية الدولة التي ولد على أرضها لأنها تعطي جنسيتها الأصلية على أساس رابطة الإقليم، كما يتمتع أيضاً بجنسية دولة أخرى ينتمي لها أبوه لأن هذه الدولة تأخذ بمبدأ رابطة الدم، فعندئذ تكون له الجنسيتان معاً، ولهذه الحالة عيوبها لأن الفرد يكون ملتزماً بأداء الالتزامات المتعددة التي تفرضها عليها القوانين في كل من الدولتين، وقد تكون التزاماته نحو دولة منها متعارضة مع التزاماته نحو الأخرى، كما هو الأمر في التزامه بالخدمة العسكرية يؤدي تعدد الجنسية إلى كثير من الصعوبات في تحديد المركز القانوني للفرد).

(وقد يجد الفرد نفسه لسبب أو الآخر بدون جنسية ينتمي إليها، لأن الدول جميعاً لا تعتبره من المتمتعين بجنسيتها طبقاً لقوانينها، ومعدوم الجنسية وإن كان لا يتحمل الالتزامات التي يتحملها الوطني إلاّ أنه يكون محروماً من الحقوق التي يتمتع بها هذا الأخير، وخاصة الحماية الدبلوماسية).

إلى آخر أمثال هذه الكلمات التي أوجدها الذين لم يكونوا يعرفون الإدارة وقيدوا بها الإنسان بألوف من القيود بدون مبرر، وهل العالم القديم الذي لم يكن فيه أثر من هذين الأمرين الحدود والجنسية كان يعيش أسوأ من عالمنا، أو عالمنا مع هذا التقدم الهائل في العلم والصناعة يعيش أسوأ وأسوأ، بينما كان اللازم أن يوفر العلم والصناعة للإنسان الرفاه والصحة والأمن والسلام الأكثر فالأكثر.

وعلى أي حال، فليس هذا الكتاب موضوعاً لهذا الكلام، وإنما ألمعنا إليه مقدمة لبيان أن التقسيمات القانونية للحقوق ليس إلاّ من جهة الجهل بواقع الإنسان المفطور عليه، بتزييد القيود عليه وكبته وإرهاقه وخنقه، كما نشاهد في كل العالم وإن كانت العوالم مختلفة من عالم الدكتاتوريين إلى عالم الديمقراطيين، حيث العالم الدكتاتوري أكثر وأكثر من جهة القيود من العالم الديمقراطي.

* مقتطف من كتاب الفقه الحقوق للمرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الشيرازي

اضف تعليق