q

فيما يشبه الظاهرة الثقافية المتنامية، أمكن رصد حالات من الإدّعاء الفارغ يتكئ عليها البعض، كي يُظهر للآخرين بأنه ينتمي الى الثقافة، ناسيا أو متناسيا، أن الانتماء للثقافة ليس حكرا على أحد، وهو ليس (طابو) مسجلا باسم شريحة المثقفين من الكتاب والأدباء والمفكرين، إنما الثقافة هي فضاء واسع الانتماء مفتوح لكل من يمتلك جوهريا ميزات الثقافة وأصولها.

من هنا لا يمكن تكميم أفواه المدعين، فهؤلاء او غيرهم يمكنهم القول بأنهم مثقفون، ولا أحد يستطيع منعهم، فلا نظن أنّ هناك أحدا بإمكانه أن يمنع الآخر من الادّعاء بالانتماء الى الثقافة، ولا يوجد احد يمكنه منعه من إطلاق كلمة مثقف على نفسه، فالساحة الثقافية مفتوحة إنْ في المكان أو في الزمان، والمجال من السعة، بحيث يمكن لكل من هبَّ ودب، أن يدّعي الانتماء للثقافة، وأن يخط لوحة عريضة، ويضعها في مكان بارز من جسده، تعلن أن هذا الشخص مثقف، لذا فالجميع يمكنهم الادّعاء بهذا الأمر، ولكن هناك معايير واشتراطات تفضح مثل هؤلاء لأن الثقافة تحتاج الى اشتراطات، وأن الانتماء لها تثبته الأفعال والسلوكيات والمواقف، لأن المثقف جزء لا يتجزأ من الخليط الاجتماعي العام.

إذاً لا يمكن لأحد أن يثبت بأنه مثقف لمجرد أنه يقول بذلك، لسبب أن الفعل الثقافي البائن هو من يثبت هوية الإنسان، واذا كانت هناك إمكانية أن يدّعي الجميع انتماءهم للثقافة، فإن شرط الانجاز والحركة والتفاعل، ونمط التفكير وما ينتج عنه من فعل مادي، يُرى ويُسمَع، بل ويُمسَك باليد أيضا، وهو كفيل بسحب هذا توصيف المثقف او إطلاقه على من يدّعيه، وهنا نلاحظ حالة من التداخل بين الفكر والثقافة، بمعنى أن المثقف قد يصبح وهما وخاويا، من دون فكر واضح ومحدد، مثلما يحتاج المفكر للثقافة العامة او الموسوعية كما يُطلَق عليها، لكي يصبح مفكرا بالقول والفعل، وهذا ما يمكن أن يشفع له أمام المجموع بأنه يمتلك ثقافة بحدود معينة قد تؤهله للانخراط في وسط أو شريحة مهمة كالثقافة وحامليها.

المثقف بين المواقف والأفعال

وهناك مواقف للمثقف تنطلق من فكره وثقافته، تتحول الى أفعال تميزه عن غيره، كما نلاحظ ذلك في قول لنعوم تشوميسكي وهو المثقف قائلا عنه بأنه: (هو من حمل الحقيقة في وجه القوة) وهذا لا يتأتى بطبيعة الحال، إلا من خلال بصيرة ثاقبة، وحصيلة متداخلة ومتعاضدة، ناتجة عن الفكر الجيد والثقافة الانسانية الصحيحة، التي ترسّخ ايمان المثقف بمساندة الحق، في وجه القوة، كالسلطة السياسية، او غيرها من القوى، وفي أزمنة مضت أثبت مفكرون ومثقفون في أمم عدة أنهم بمثابة قطب الرحى بالنسبة للجماهير فيما يتعلق بالكفاح ضد السلطة المسيئة، سياسية كانت أو غيرها.

بالمقابل لا يمكن للثقافة الخالية من المواقف المادية الملموسة أن تصنع مثقفا ولا للفكر أن يفعل ذلك، بل على العكس هناك من وضع نفسه رهن إشارة السلطة بأنواعها لاسيما السياسية منها، ويوجد في كثير من الكتابات، شكوى مريرة من بعض المثقفين الذين سخَّروا أقلامهم لخدمة جهة أو لخدمة مصالحهم الخاصة، ونسوا واجبهم في قول الحق ومحاصرة الشر، وإنصاف المظلوم، وحماية المصالح العامة.

ونحن نقول أن المثقف الوهمي هو المثقف غير المفكر، وغير الفاعل، إلا اذا كان الفعل يصب في مصلحته او مصلحة القوة أيا كان نوعها او مصدرها، على العكس من المثقف المفكر، الذي غالبا ما يكون شاخصا أمام الجميع، في كل المواقف والاحداث الجسيمة، بثقافته وفكره معا، إذ ينحو الى إعمال قلمه في كشف الحقيقة، وفضح الخطأ أينما كان ومهما كان مصدره أو القائم به بحسب أحد الكتاب العرب، لذا من المهم أن يعترف من يخطط للدخول في هذا المعترك، أن القول والتبجّح بالانتماء لا يكفي وحده، بل لابد من مواقف عملية داعمة، فهذا أمر أساسي.

ولا شك أن الفارق بين الأصيل والمدّعي كبير، ليس في الثقافة وحدها بل في جميع مضامير الحياة، وحتما هنالك فرق بين المثقف والمفكر أيضا، لكن قد يبدو الفارق ضئيلا بين المفكر والمثقف على نحو عام، لاسيما اذا كان النظر إليهما من زاوية الحضور والمساندة للحقيقة، بالضد من القوة وتوابعها، وفي هذا الصدد يرى أحد الكتاب أن الفرق الجوهري بين المثقف والمفكر هو أن المثقف قادر أكثر من غيره على نقل ونشر وتوسيع دائرة الأفكار والرؤى، أما المفكر ففي الغالب أنه يعتبر مصنعا ومنتجا للأفكار. وهذه سمة المنتجين في مجال الفكر، في حين ينبغي على المثقف قبل الإدّعاء أن يثبت بالفعل كونه مثقفا وليس بالقول المجرد.

المثقف لا تحكمه المنفعة الآنية

وحتما هنالك مواصفات تنطبق على المثقف، فهو لا يمكن أن يحمل هذه الهوية من خلال قوله بأنه مثقف، لاسيما أن هذا النوع من المثقفين سرعان ما يكشف للآخرين، فغالبا ما يكون مصلحيا، تحكمه المنفعة الفردية أولا، حتى لو حاول تغطية هذا النقص الفاضح، بأساليب كثيرة قد تبدو للبعض مقبولة، وقد تمر أحيانا حتى على ذوي العقول المتفحصة والثاقبة، لأن هذا النوع من المدعين يتعكز على حالة من الخداع، عبر انتهاجه للتخفّي والوسطية اللامشروعة، فهل يمكن أن تُقبل الوسطية والاعتدال كحالة تعامل مع حكومة ظالمة، تسحق شعبها بوسائل القوة والبطش والسرقة والتهميش، وما الى ذلك من تدمير منظّم للشعب؟ ولكن مع ذلك نلاحظ أن هذا المدعي، بالإضافة الى عجزه التام عن تنوير المجتمع، وتثقيفه وزيادة وعيه، كونه ليس هدفا من اهدافه، فإنه ينتهج سياسة غض الطرف، اذا حدث تناقض بين مصلحته، وبين منهج القوة الذي لا يتوانى قط، عن فرض الرأي، وحماية الذات والمنافع السلطوية، بغض النظر عن مدى ما تلحقه من أذى بالآخرين، وهذا هو منهج السلطة الغاشمة التي تكمم أفواه الآخرين.

لهذا لا يمكن لحالة التبجح والادعاء بالانتماء للثقافة أن تصنع مثقفا فاعلا أصيلا، لأن الثقافة موقف وعمق وجوهر وانتماء حقيقي غير قابل للسطحية أو الترويض من السلطة او المصالح أو أي أهداف سريعة أخرى، ذلك أن المثقف الأصيل هو حامل الفكر الإنساني المتوقد، المدافع عم حقوق الوسط الاجتماعي ضد القهر السلطوي لدرجة أن كثيرا من المثقفين والمفكرين فقدوا حياتهم نتيجة لصراعهم المستعرّ مع السلطات الغاشمة، ولعل التاريخ المنظور والقريب في مجتمعات عربية وأجنبية في افريقيا وامريكا اللاتينية وحتى في مجتمعات غربية، أثبتت أن الصراع بين الفكر المبدئي والقوة لم ينته بعد، بل هو في حالة مستدامة من التأجيج، ما يعني أن الادعاء بالانتماء الى الثقافة لا يمكن أن يصنع مثقفا، إنما المواقف هي التي تصنع ذلك.

اضف تعليق