q

وصلت الى النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، رسالة مميزة من قبيلة قريش التي كانت تمثل جبهة الشرك والكفر مقابل جبهة الرسالة السماوية، والرسالة بإمضاء رموز من قريش منهم؛ الحارث بين قيس، والعاص بن وائل، والوليد بن المغيرة، والاسود بن عبد يغوث، والاسود بن المطلب بن أسد، وأمية بن خلف، تحمل حلاً لأزمة الايمان التي وقعوا فيها بعد إبلاغهم برسالة السماء وما تبشر به أحكام وشرائع ونظام جديد للحياة، فالنبي يطلب منهم الايمان برسالة السماء ونداء الخالق لهم وللبشرية جمعاء، بينما هم يشككون ويرفضون التخلّي عن عبادة الاصنام والمنهج الجاهلي المتخلف في حياتهم؛ هذا الحل هو نفسه ما يُطلق عليه اليوم بـ "الحل الوسط"، ذو المدلولات العديدة، منها؛ التوصل الى صيغة اتفاق يضمن مصالح طرفي النزاع او الحرب.

فما هو الحل الوسط الذي كان يمثل ابتكاراً سياسياً في تلك الفترة؟ جاء في الرسالة ما يلي:

1- "هلُمّ يا محمد...! فاتبع ديننا نتبع دينك".

2- "ونشركك في أمرنا كله، تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، فان كان الذي جئت به خيراً مما بأيدينا، كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي ما بأيدينا خيراً مما في يديك، كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه".

وعندما جاء الرد القاطع بالرفض، قالوا:

"فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد آلهتك".

ربما لا يكون القارئ اللبيب بحاجة للخوض في جواب النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله على تلك الرسالة، فكتب السيرة والتاريخ حافلة بالتفاصيل، الى جانب الوضوح في الرفض المطلق من جانب النبي، ومن ثم نزول سورة كاملة في القرآن الكريم، باسم "الجحود" أو "الكافرون" التي بين الموقف الحضاري والجازم من السماء باستحالة ايمان الجاحد والكافر، وهو يكنّ في قلبه الكفر والجحود، بقدر الاهمية في العبرة من تلك الرسالة (الحل الوسط) الذي ابتكره ساسة قريش قبل اكثر من اربعة عشر قرناً.

في معظم الازمات والحروب التي يعجز الطرفان عن الحسم، لاسباب عديدة، ومن ثم شعورهما بالخسارة المشتركة والمضي في حرب استنزاف لا طائل منها، يبدأ التوجه نحو الحلول السياسية من اطراف ثالثة، كأن تكون منظمات دولية او "لجان مساعي حميدة" في المحيط الاقليمي؛ هذا النوع من الحلول يخرج الطرفين من حالة الحرب والمواجهة كخطوة أولى، والتخلّي عن المطالب والاهداف والشعارات المرفوعة في المعركة، تمهيداً لقبول حل من نوع جديد، لا يشبه الحلول التي تدور في أدمغة الطرفين، وكل منهما يحلم بأن يحقق هيمنته او يفرض ارادته او يستعيد حقه بالقوة، إنما يصاغ حل أطلق عليه في وقت مضى على بعض الملفات العالقة في الشرق الاوسط، بـ "لا غالب ولا مغلوب"، فيخرج الطرفان بسلام من المعركة دون المزيد من الخسائر.

وخلال هذه المسيرة التفاوضية للتوصل الى هكذا نوع من الحل، يبدأ الطرفان المتنازعان بالتفكير بما يشبه الحرب الجديد والصامتة للبحث عن الامتيازات، بإطالة أمد المباحثات وكسب الوقت او فرض الشروط او فتح ملفات انسانية او حقوقية لإحراج الطرف المقابل وغير ذلك.

وقد نجد ملامح هذه الحلول السياسية (الوسطية) في المعترك الثقافي والفكري، عندما تشتد المواجهة بين مدارس متباينة ومتعارضة، كلٌ يدّعي الافضلية على ارض الواقع، وحتى لا يسقط طرف ما في مستنقع "التطرّف" فانه يلجأ الى "الحل الوسط"، فهو يرفع شعارات اسلامية لنموذج النظام الحاكم الذي يتطلع اليه ويفكر به، بيد أنه يقبل ايضاً بإبقاء هذه الشعارات مرفوعة في مكانها وعدم الاصرار على تكريسها في الواقع مهما كانت الحاجة اليها او انها تمثل هوية ذلك الشعب او البلد، حيث هنالك استحقاقات اخرى ذات مدخلية في وصول هذا الطرف (الاسلامي) او ذاك في قمة السلطة، لابد من أخذها بنظر الاعتبار وإلا خسرت الفرصة التاريخية والذهبية، فليكن النظام الحاكم بواجهة اسلامية وقوانين تراعي الشريعة، او بنود في الدستور تحترم – ظاهراً- الشريعة والاحكام الاسلامية، ثم تغيب الكثير من القوانين والاحكام، من القضاء والمؤسسات السياسية والاقتصادية والخدمية ذات الصلة بحياة الناس، لذا بات من الطبيعي ان يعيش الناس البطالة وأزمة السكن والتضخم وانعدام فرص العمل وغيرها من الازمات.

ربما يتصور البعض ان عدم القبول بحلول كهذه في الحقب الزمنية الماضية، هو الذي جعلنا نعيش عقوداً طويلة من الزمن في قوقعة المعارضة وحياة الحرمان ومن ثم الاضطهاد والقمع في فترات معينة، مثلاً؛ لو كان مراجع الدين في بداية القرن العشرين، حيث كان يعد لكتابة تاريخ جديد للعراق، قد تخلّوا عن مواقفهم بالعداء للقوى الاستعمارية، وفي مقدمتها بريطانيا، ومواقفهم المتشددة من النظام السياسي المشيّد وفق الرؤية والسياسة البريطانية، ولو كان – مثلاً- المرجع الديني الشهيد السيد محمد باقر الصدر، قد خرج على الشاشة الصغيرة – وكان آخر اقتراح من صدام له قبل اعدامه- ويتحدث فقط عن "منجزات الحزب والثورة في الزراعة والصناعة و...."، لما كان المجتمع الشيعي يتعرض طيلة العقود الماضية الى كل ذلك القمع والاضطهاد من قبل الانظمة السياسية الحاكمة، ويكون بين معذب في قعر السجون ومقتول ومسجون ومشرد ومطارد.

وحتى تكون الصورة متكاملة، علينا إلقاء نظرة سريعة على المجتمع السنّي في العراق وما آل اليه الأمر بعد أن كان طوال قرن من الزمن، بعيداً عن الازمات السياسية مع الحكام، فانه يتعرض اليوم لإبادة حقيقية من تشريد وتقتيل ودمار شامل وإذلال عجيب، ليس بسبب السياسات الحاكمة كما حصل بالنسبة للمجتمع الشيعي من قبل، وإنما بسبب مواقفه او مواقف رموزه ونخبته والخيارات التي اتبعوها للحصول على حقوقهم فقط، عندما وضعوا انفسهم في كفة مقابل كفة المصالح الدولية والاقليمية، و ايضاً في دهاليز المخابرات، فهل يكونوا مكرمين في التاريخ وامام الاجيال، عندما يقدموا العون والمال والمأوى وحتى العِرض، لعناصر ارهابية وتكفيرية، ثم تراق دماء ابنائهم بالجملة وتدمر حياتهم ويفقدون استقرارهم بسبب وجود هذه العناصر الاجرامية في العراق؟

إن الترويج للحلول الوسط او ما يسمى احياناً بـ "الاعتدال" او "الرمادية" أمرٌ مفيد وجيد لتطبيقات في الاقتصاد او الاجتماع والسياسة، وطالما وردت التأكيدات في سيرة المعصومين، عليهم السلام، وايضاً القرآن الكريم على الحالة الوسطية في حياة الانسان، وما أروع القرآن في هذا المجال وهو يوصي الانسان بالتوازن في تعامله مع المال: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً}، وهكذا في مجمل مسائل الحياة الشخصية والعامة في المجتمع يمثل التوازن أمراً اساسياً، بل يعد الميزان الذي تستقر عليه أمور الناس ويعيشون بشكل طبيعي.

هذا التوازن والوسطية التي يتمتع بها الناس في بعض المجتمعات، -او يفترض ان يكون كذلك في جميع المجتمعات الاسلامية- لم يكن له وجود لولا الموقف الحازم من أمور اساسية تمثل هوية المجتمع والامة وقاعدتها الفكرية والعقائدية.

اضف تعليق