q

تعلقت بكف أمي وأنا أهرول الى جانبها، يغص صدري بالبهجة، سوف أسجل في الصف الاول الابتدائي في مدرسة ريفية، تقع بالقرب من قريتنا التي يشطرها نهر هادئ، اول مرة ارى الكرسي في حياتي عندما دخلت المدرسة للتسجيل، كانت صدمة بالنسبة لي، أن ارى مدير المدرسة جالسا على كرسي مرتفع فخم و (مخيف)!، المدير نفسه متجهم الوجه، تحول الفرح والبهجة في صدري الى نوع من الرهبة الغامضة، خوف لا اعرف مصدره، سببه الكرسي والمدير، فكلاهما وجهان لعملة واحدة كما يُقال، خاصة ان المدير لم يضحك، لم يتبسَّم، كان عبوسا وكأنه الرجل الوحيد المتفضل على أهل القرية بالعلم، فيما بعد، سوف أعرف أن سبب تجهم المدير يقع على عاتق الكرسي، فهو الذي جعل ذات المدير تتضخم بسبب سحر السلطة الغريب!، كذلك شعرت، بل رأيت تشابها كبيرا بين الكرسي ومن يجلس عليه، أي المدير، فكلاهما واحد، حتى أنني سمعت الكرسي، يعلن بصوت واضح تبجحه بالقوة التي يستمدها من أعلى منصب في المدرسة التي تتكون من عدد كبير من المعلمين والطلاب والحراس والمنظفين وغيرهم!.

اللقاء الثاني مع الكرسي، كان في إحدى دور القضاء، عندما نطق الحاكم بالحكم على احد ابناء منطقتي، كنت في العاشرة، بدا كرسي القاضي ضخما، ذا هيبة رهيبة، كانت هناك كراس كثيرة لكنها اصغر حجما، منذ ذلك الحين عرفت ان للكراسي أحجام ومناصب ومسؤوليات!، وللكراسي أوجاع وهموم تنتقل لهم ممن يجلس عليها، أو أحيانا كما فهمت من (احد الكراسي) لا يحدث انسجام بين الاثنين، أي يكون هناك تناقض بينهما في الافكار والاهداف والتطلعات، فقد يكون الكرسي اكثر رغبة في الاستحواذ على المنافع والاموال والسلطة من صاحبه، أو قد يحدث العكس، وفي هذه الحالة يعاني الكرسي من استبداد الحاكم وظلمه له وللناس على حد سواء.

بعد سنوات طويلة واجهت انواعا كثيرة من الكراسي، منها كان مسالما مثل كرسي الدراسة في الصف، او في مسرح الـ (ستين كرسي) الذي شاع في بغداد في حقبة ماضية، أما في الجامعة فقد حصلت على كرسي خاص بي، رمم العلاقة الشائكة بيني وبين هذا الكائن المتعجرف، هكذا كنت اسمي الكرسي، أحببت هذا الكائن الجديد الأنيق المألوف المسالم، (كرسي قاعة الدرس في الجامعة) وشعرت ناحيته بالألفة، على العكس من صور الكراسي السابقة، ولكن هناك كراسي هزيلة حقا، مثلا عندما كان عمري قرابة عشر سنوات، كنت أتجوّل في شوارع مدينتي باحثا عن حلاق رخيص الثمن يقص شعر رأسي الطويل المجعّد، وبعد تجوال مضنٍ رأيت حلاقا (هنديا) على الرصيف، يضع مقعدا واطئا مغطى بقماش كالأسمال، لم أر شكل الكرسي، لكنني أصبحت تحت موسى الحلاق الهندي، لانه رخيص الثمن يناسب ما امتلك من فلوس، كنت أفكر بين هذا الكرسي الفقير الضامر، وبين كرسي القاضي، وعقدت مقارنة بين الرجل الهندي النحيف الاسمر، وبين جسد القاضي الضخم ووجهه الابيض المحتقن باحمرار الدم والصحة!، شتان ما بين الاثنين، فالكراسي إذاً مثل اصحابها، قد تكون متبجحة متغطرسة، وقد تكون واهنة وضعيفة.

وعندما حصلت على وظيفة حصلت على كرسي بدا لي صغيرا في اول الامر، وكنت انا صغير الجسد والارادة معا، لكن الكرسي شجعني على أن ابرز عضلاتي الفكرية والمادية، وشيئا فشيئا، تضخمت ذاتي كما الطفل عندما يولد ضعيفا في اول المشوار، ثم ربما يصبح ماردا كهتلر مثلا، أو نابليون، أو أحد قادة أمريكا، وربما يكون هزيلا تبعا لقيمة السلطة والمنصب الذي يتبوأه صاحبه، بمعنى أوضح، تكمن قيمة الكرسي في قيمة المنصب، أو في قيمة سلطة صاحبه وصلاحياته ودرجة نفوذه، إذ تنعكس هذه القدرات على الكرسي، فيصبح متنمّرا، متبجحا، مغاليا، متبخترا، يرى حجمه أكبر من الجميع، هكذا خدعني الكرسي الجديد عندما بدأ يكبر ويتضخّم مع مرور الوقت، في الحقيقة لم أتنبّه للتغييرات التي طرأت على الكرسي، لذلك تضخمت ذاتي من دون ان التفت لهذا الامر، وصرت اشعر بأنني مهم وكبير وازدادت عجرفتي وبدأت درجة التعالي والتكبر على النااس تتصاعد في أعماقي!، وصار الكرسي نفسه كائن خطير يحب التعالي على الاخرين!، حتى أنني ظننت أن التضخم الخطير الذي حصل في شخصيتي سببه الكرسي الذي أجلس عليه، هكذا ينعكس تأثير الكرسي على صاحبه، حتى لو كان يعي حدوده وانسانيته وفق قيم واخلاقيات ضابطة!.

بعدها عشت مع انواع كثيرة من الكراسي، في رحلة لم تتوقف الى الآن، وبعد سيرة طويلة للكرسي رافقتها عن بعد او قرب احيانا، أشعر أنه كائن، ينبغي التعامل معه بحذر شديد، بسبب تأثيره القوي الغامض وغير المباشر على الجميع من دون استثناء، ولكن بنسب متفاوتة، اتذكر انني تسلمت مسؤولية رأستُ فيها عددا كبيرا من العاملين، كان يربو عددهم على المئات.. حصلت على صلاحيات كبيرة للتعامل معهم، منحها لي المنصب، والكرسي المتعالي الذي يثير في نفسي نزعة التسلط، كنت احيانا لا استطيع السيطرة على سحر السلطة، وكنت اشعر انني متضخم فعلا، خاصة عندما أكتشف بأنني استطيع التحكم بهؤلاء، وانهم جميعا بحاجة الى قرارات مني، يمكن ان تساعدهم، او قرارات يمكن ان تؤذيهم!، إنها تجربة مريرة مع السلطة، كنت غادرتها منذ زمن بعيد، من دون تجاوزات إلا ما ندر!! عندما تضعف إنسانيتي وأكون غافلا عن الظلم الذي ألحقه بمعيتي تحت تحفيز من سلطة الكرسي وسحره العجيب، لقد تمكنت انسانيتي في كثير من المواقف والاغراءات أن تقمع غرور الكرسي وتعاليه ودعوته للبطش بالناس!!، وفي نهاية المطاف لم يتمكن هذا الكائن العجيب من زج سحره في نفسي او افكاري او سلوكي.. وهذا ما اشكرُ نفسي عليه دائما!!.

إذن يستدعي التعامل مع الكرسي، عدة احترازات، أولها أن تؤمن بأنه كائن مثله مثلك، له ذاته التي تبحث عن التضخم والتبجح والمديح والتملق واستثمار الامتيازات والصلاحيات، ولكن يمكن إقامة علاقة متوازنة مع الكرسي، على أن يتم خلقها من قيم رائعة مثل (العدل، العفو، التسامح، التعاون، احترام الآخر، الانصاف)، عند ذاك يرتاح الكرسي من الغرور.. ويرتاح صاحبه من قبح التضخّم.

اضف تعليق


التعليقات

ʐąђŗąَ-vąђįdį
العراق
هنالك نسل لا يعرف الا السلطة..!
ف وطنا لا تجد فيه ضميرا
ستجد فيه الكثير من الكراسي!!2016-04-10