q

عندما نتفحّص تأريخنا السياسي، وأعني به تأريخ العراق السياسي الحديث، فإننا يمكن أن نستشف منه غيابا ملحوظا لحرص القادة السياسيين على بناء الدولة العراقية المدنية المستقرة، ولعل الشواهد التي تثبت هذا الاستنتاج أو الرأي كثيرة لدرجة قد يصعب حصرها جميعا، ولعل أوضحها هو الاسلوب الذي اعتاد عليه الساسة في تبادلهم وتداولهم للسلطة في العراق، فقد دلّت حالات العنف واستخدام القوة الغاشمة في السيطرة على السلطة عبر اللجوء الى الانقلابات العسكرية، على أن جميع الساسة الذين صارعوا بعضهم من اجل الوصول الى السلطة، لم يكن هدفهم بناء الدولة العراقية بقدر تحقيق مصالحهم المادية السريعة الضيقة والزائلة، ويوجد لدينا دليل قاطع على هذا القول، يكمن في أننا على الرغم من مرور عشرات السنين على نشوء الدولة العراقية الحديثة، لكننا مع ذلك لم نرّ او نلمس ما يثبت، أن الواقع يقف ازاء دولة مؤسسات قوية مستقرة تم بناءها على اساس شرط التراكم!.

وربما لهذا السبب تحديدا، فضلا عن الاسباب الاخرى الخفية، صرّح اكثر من مختص بعلم السياسة أن الدولة العراقية لم تتطور وفق شروط النمو المتعارف عليها للدول، إذ أن كثيرين من علماء السياسة شبّهوا الدولة على نحو العموم بأنها كائن حي، في معظم مراحل نشوئها وتطورها، وهي بذلك تقع تحت تأثير التراكم في جميع مراحل البناء، وفي حالة إهمال هذا الشرط، وعدم مراعاته من لدن البُناة السياسيين الذين يتعاقبون على ادارة الدولة، فإنها سوف تفقد النمو المتصاعد، بسبب إهمال القادة السياسيين لأهمية البناء التراكمي، وهذه الظاهرة تسود الدول المتأخرة سياسيا واقتصاديا بصورة خاصة، أما الدول الراسخة فإنها تجاوزت هذه العقبة الكبيرة بفضل منهج البناء المتراكم والتخطيط الاستراتيجي لقادتها المتعاقبون على ادارتها، حتى لو اختلفوا في الرؤى والافكار مع بعضهم، فالقادة السياسيون الجدد يأتون ليكملوا البناء السياسي القديم للساسة الذين سبقوهم، وهكذا تستمر عملية بناء الدولة بصورة تصاعدية، ولا يلغي السياسي الجديد بناء السياسي القديم، بل يعمل على تصحيحه وهو امر مشروع تماما، ثم يواصل رحلة البناء ويضيف عليه ويطوره، وبهذا نلاحظ تمسك جميع الساسة الذين يتعاقبون على ادارة الدولة بشرط التراكم في مسيرة بنائها.

ما يعنينا في هذا المجال السؤال التالي، هل خضعت الدولة العراقية لهذا القانون؟، وبمعنى اكثر وضوحا، هل واصل القادة السياسيون الذين تعاقبوا خلف بعضهم في قيادة الدولة العراقية منذ نشوئها، عملية بناء الدولة بطريقة التراكم، أم بطريقة نسف البناء القديم والبدء من جديد في بناء الدولة، وفق رؤية جديدة وافكار ومآرب مختلفة؟، ومن المؤكد أن الاجابة عن ذلك تقول أن كل الوقائع السياسية التاريخية المتعلقة بالدولة العراقية، تؤكد عدم التزام القادة السياسيين الذين تعاقبوا على حكم العراق (لا هم ولا حكوماتهم ولا أحزابهم)، بشرط التراكم في بناء الدولة.

وهذا يعني أن دولة العراق الحديثة التي تأسست في سنة 1921، لم تخضع لشرط البناء التراكمي، ليس في السياسة فقط، وإنما في الاقتصاد والتخطيط، بل وفي جميع المجالات الاخرى التي تتعلق بإدارة الدولة وبنائها، وهذا يعني أن الحكومات التي حكمت دولة العراق لم تراعي هذا الشرط الحيوي، وعلى الرغم من قِصَر أعمار بعضها أو اغلبها، فإن القادة السياسيون والزعماء الذين وصلوا للسلطة عبر الانقلابات، كانوا يعتمدون مبدأ الرؤية الذاتية في البناء مع التشبث التام بالمصالح الذاتية الحزبية الضيقة، ولم يحاول أحدهم التفكير بالاستفادة مما جاء به القادة الأقدمون في مجال بناء الدولة، فعندما يأتي القائد او الحزب السياسي الفلاني، ويستلم الحكم في العراق، فإنه يقوم بتهديم وإلغاء ونسف كل ما بناه القائد السياسي الذي سبقه، والقائد الذي يأتي فيما بعد، سوف يقوم بتقويض ما بناه السياسي الراهن، وهكذا تمّ إهمال ميزة البناء التراكمي إهمالا شبه تام من لدن جميع القادة العراقيين إلا ما ندر.

فخسرت الدولة العراقية بسبب هذا الإهمال والاستئثار، فرصة البناء الاستراتيجي الذي كان من الممكن أن يبني دولة قوية، تستند الى تاريخ تراكمي من البناء السياسي والاقتصادي والتخطيطي المتعاقب مع اهمية عملية التصحيح وليس الالغاء حتى تبقى قواعد بناء الدولة الاساسية قائمة، ولكن ما حدث عبر التاريخ العراقي المنظور او الحديث على الأقل، هو التهشيم المتواصل لقواعد البناء السابق او القديم واعتباره كله خاطئا بما في ذلك البناء المادي للدولة، ومن ثم البدء من جديد بعملية بناء تقوم على رؤية الفرد او الحزب الجديد الذي استولى بالقوة وليس بالانتخابات على السلطة، حيث تأخذ هذه السلطة الجديدة على عاتقها إزالة البناء الذي ورثته، ثم يخضع هذا البناء الجديد بدوره للإزالة من لدن الحاكم الذي سيأتي لاحقا، وهكذا جرت جميع الامور التي تتعلق في بناء الدولة وإدارتها في هذا الاطار، كما دلّتْ على ذلك جميع المدوّنات السياسية لتأريخ العراق السياسي المعاصر، فضلا عن الأسانيد غير القابلة للدحض، فضاعت الفرصة العلمية العملية الصحيحة لبناء الدولة العراقية القوية الراسخة، بسبب الإهمال الواضح بل والمتعمَّد لميزة أو قانون البناء التراكمي للدولة.

ولعل السبب الاساس الذي يكمن وراء هذه الظاهرة، التي تسبب في ضياع فرصة بناء دولة عراقية قوية، هو غياب المؤسسات والقواعد التي تقوم عليها ادارة الدولة، وهناك امثلة عديدة في دول اخرة منها مجاورة للعراق، تغيّرت انظمتها السياسية (وبعضها بالقوة)، لكن مؤسسات الدولة التي تم بناءها من خلال انظمة سياسية سابقة بقة قائما، مع اجراء التصحيحات اللازمة لها، لذلك يحتاج العراق الى قادة سياسيين لا يلغون بعضهم بعضا، لأنهم بذلك لا يلغون أنفسهم فقط بل يضيعون الفرصة على العراق، لكي يصبح دولة مؤسسات قوية لا تتغير بتغيّر قادتها السياسيين.

اضف تعليق