q

نهج البلاغة كنز في الادب والتراث، وهو مجموعة خطب امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام)، ويبدو انها كانت متداولة بين المسلمين الى عصور لاحقة. فقد ذكر المؤرخ المسعودي (تـ 346هـ) في كتابه مروج الذهب تداول الناس في عصره خطب امير المؤمنين (عليه السلام) وقد بلغت في قوله اربعمائة ونيف وثمانون خطبة، وأيده في ذلك المؤرخ اليعقوبي (تـ 393هـ) في كتابه (مشاكلة الناس لزمانهم)، لكنه أقتصر على أربعمائة خطبة حفظها الناس على حد قوله وهي تدور بينهم.

وأشارت روايات الى جمع خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) منذ أواخر القرن الاول الهجري وحتى منتصف القرن الرابع الهجري، التي كان اخرها فيما نعلم ما جمعه وشرحه من خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) القاضي أبي حنيفة النعمان المصري المتوفي سنة 363هـ لكنها إندرست وفقدت. فبادر الى جمعها ونظمها الشريف ابي الحسن محمد بن ابي احمد الحسين الرضي (تــ 404 هـ)، لاسيما وان عصره قريب الى عصر تلك المصادر التي جمعتها وشرحتها، وقريب ايضا الى حفظ الناس وتداولها لها في القرن الرابع الهجري وماقبله.

وكان رحمه الله من اصحاب الهمم العالية والعزائم الغالية والنفوس التي لا ترى لها مكانا الا في الاعالي، وله في ذلك تجارب وحكايات نقلها اصحاب التراجم في شخصه وسيرته، ونفوس هكذا ترنو الى العلا تجد في شخص امير المؤمنين علي (عليه السلام) وسيرته خير انموذج واحسن اقتداء، ولعله هذا كان وراء جمعه خطب امير المؤمنين علي (عليه السلام)، اضافة الى العلوم المخصوصة، وثراء الادب وغناه في خطب امير المؤمنين (عليه السلام)، فقد كان الشريف الرضي عالما فقيها وشاعرا مجيدا واديبا كبيرا من افذاذ شعراء العرب في تاريخ الادب، حتى قال البعض ان نهج البلاغة من وضعه وصنعه، الا انه اسراف في القول، فنهج البلاغة لقائله واصله بإقرار الشريف الرضي وافذاذ علماء عصره ومن جاء منهم بعده، وقد جمعه من بطون الكتب واوراق التراث والادب في عصره، حيث كانت منثورة فيها نثرا غير منتظم وغير متسق، وقد نحلت بعض منها الى غير قائلها (عليه السلام)، لكن نقاد الادب الكبار كانوا يعلمون خطب امير المؤمنين (عليه السلام) من متنها دون سندها وعباراتها دون رواتها، وقد فعل الجاحظ ذلك حيث فند ان تكون خطبة نسبها الرواة الى معاوية وهي لا يكون مثلها الا لأمير المؤمنين (عليه السلام) وفق ما ذهب اليه الجاحظ.

واما المبادر الى احياء النهج ونشره درسا لمتلقي العلم والادب فهو الوزير البغدادي مؤيد الدين ابو طالب محمد بن احمد المعروف بـ (العلقمي) (تـ 656 هـ) وزير المستعصم بالله الخليفة العباسي، فقد بادر الى تكليف المتكلم والاديب المعتزلي عبد الحميد ابن ابي حديد (تـ 656 هـ) ان يضع كتابا في شرح نهج البلاغة، وكان ذلك دأب هذا الوزير وطريقته، فقد كان مقربا لأهل العلم، وصنف العلماء له كتبا بناء على طلبه، وقد اجتمعت فيه مواهب السياسة والادب، متمسكا بقوانين الرياسة وخبيرا بأدوات السياسة، اقتنى الكتب الكثيرة والنفيسة وهكذا وصفه ابن طباطبا في كتابه (الفخري في الاداب السلطانية)، ونعته ابن سبط الجوزي (تـ 654هـ) المؤرخ السني والمعاصر له في بغداد في كتابه مرآة الزمان بانه رجل ورع وتقوى واستقامة) وانه قارئ لكتاب الله الكريم.

ولعل رئاسته في الدولة العباسية وخبرته بأدوات السياسة دفعت به الى ان يستطلع اخبار السياسة والامامة في تاريخ الاسلام من خلال شرح نهج البلاغة وخطب الامام امير المؤمنين علي (عليه السلام) فقد اشتملت على الشيء الكثير والمهم منها، ولعل هذا قصدا ظل خفيا في نفس هذا الوزير العظيم لم يدركه احدا حتى شارح النهج ابن ابي الحديد، اضافة الى ارتياده شواطئ الادب وتمكنه منها ومواهبه فيها، فهي تجذبه جذبا الى تصفح خطب النهج وشروحها، اضافة الى انه كان ورعا، متدينا، مستقيما، ومن القراء لكتاب الله الكريم، وهي عوامل قد اجتمعت في أولويتها، ولعل عامل السياسة والرئاسة يتقدم فيها، فدفعت بالوزير العلقمي الى ان يطلب ويبادر الى تكليف ابن ابي الحديد بشرح النهج.

وقد تعرض هذا الوزير الكبير الى الظلم الشنيع على ايدي خصومه السياسيين من السنة ومؤرخين شاميين ومصريين ولم يكن بينهم في حملة اتهامه مؤرخ عراقي واحد، وقد اعاد النصف الى شخصيته سعد بن محمد حذيفة مسفر الغامدي استاذ التاريخ في جامعة الملك سعود في الرياض في كتابه المهم (سقوط الدولة العباسية).

وكان قبل ذلك قد شرح نهج البلاغة، وكما أشار الى ذلك ابن ابي الحديد في مقدمته، عالم وفقيه هو سعيد بن هبة الله بن الحسن المعروف بالقطب الراوندي (تـ 573 هـ) ويقول ابن ابي الحديد انه لا يعلم احدا شرحه قبل القطب الراوندي وهو يقصد النهج كما جمعه الشريف الرضي، ولا يعني به من شرح خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبله والتي جمعت قبل الشريف الرضي، ولكنه يعيب على القطب الراوندي شرحه ويصفه بانه ليس من رجال هذا الكتاب الذي اشتمل على علم الفنون المتنوعة في قوله، فيما كان القطب الرواندي فقيه لا حظ له في تلك الفنون، ولعل وراء هذا القول خلافه المذهبي مع القطب الراوندي، لا سيما واننا لم نطالع هذا الشرح ولا اعلم احدا قد كتب عنه او اعاد نشره ولعله من الكتب المندرسة او النادرة بإطلاق.

لكن لنا ان نقول في عصرنا هذا، ان الفنون المتنوعة في نهج البلاغة لم يكن ليطلع عليها كلها ابن ابي الحديد في عصره في القرن السابع الهجري، فقد تطورت مناهج وادوات البحث في هذا العصر الحديث ولم تعد مناهج الكلام (علم الكلام) واللغة لا سيما معاجمها وقواميسها، أو مناهج الرواية والدراية التي اعتمدها ابن ابي الحديد في شرحه للنهج بكافية في الخوض او في إدراك الفنون المتنوعة في نهج البلاغة. فقد قرأ ابن ابي الحديد كتاب نهج البلاغة الجامع لخطب مولانا امير المؤمنين علي (عليه السلام) لغة معجمية او قاموسية، فهو يبدأ باللفظ والمعنى الراجح فيه، ثم ينتقل الى طرائق علم الكلام في إتيان العقائد لاسيما إنه كان متكلما معتزليا مرموقا، وبينها كان يروي حوادث التاريخ الحافة بمناسبة الخطبة تاريخيا، او ما تطرقت إليه الخطبة من حوادث كبيرة في تاريخ الاسلام.

ولذلك فهي قراءة محددة بموضوعها وبمتلازماتها الثلاث (اللغة والكلام والرواية) لكن لنا ان نقرأه ليس من خلال اللغة والكلام والرواية حصرا كما صنع ابن ابي الحديد، بل لنا ان نقرأ تاريخ الاسلام وتراثه وأحوال المجتمع الاسلامي وتقلبات ظروفه الاجتماعية والسياسية وانتقالاته الثقافية من خلال نهج البلاغة مع الاستعانة وسطا بشروحه القديمة بما فيها شرح ابن ابي الحديد المعتزلي، وهو ما يساعدنا على إعادة قراءة تاريخنا قراءة تحليلية وناقدة من خلال نص نهج البلاغة، وقد جاءت خطب امير المؤمنين علي (عليه السلام) تعبيرا عن التحولات التي طرأت على المجتمع الاسلامي في اعقاب وفاة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وانقطاع الوحي وانتهاء عصر نزول القران الكريم.

* شبكة النبأ المعلوماتية/مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام

اضف تعليق