q

شبكة النبأ: الثقافة كما هو معروف ومتَّفق عليه، تبني المجتمع وتشكل مواصفاته كافة، أي اذا كانت الثقافة سليمة وجيدة ومنفتحة ومتوازنة، يمكنها أن تبني مجتمعا يحمل المواصفات نفسها، بالاضافة الى بناء دولة مستقرة ومتوازنة، ويؤكد المعنيون بالاجتماع، والمجتمعات على مختلَف مستوياتها من حيث الرقي والتحضّر، على دور الثقافة الحاسم في البناء المجتمعي، لذلك تشير الأدلة كافة، الى معادلة لا تقبل الشك أو حتى النقاش، يقول نص هذه المعادلة، كلما ارتقتْ و صحَّتْ ثقافة المجتمع، كلما ارتقى المجتمع الى مستويات أرقى من سواه، وهذا بالضبط هو الدور الحاسم للثقافة في صناعة المجتمعات والدول.

هنا تنبثق نقطة مهمة جدا تتعلق ببناء الثقافة نفسها، أي كيف يمكن أن نبني ثقافة قادرة على بناء المجتمع والدولة كتحصيل حاصل، وهنا بالتحديد يظهر دور الحوزات العلمية بصورة جلية، بخصوص بناء الثقافة المجتمعية السليمة القادرة على الارتفاع بالمجتمع نحو مستويات الارتقاء والتطور، وهذا الدور يمكن أن نتلمسه في الفعاليات الثقافية والجهود الفكرية التثقيفية التي تضعها الحوزات تحت تصرّف المجتمع، علما أننا يمكن ان نتلمّس العكس عندما يتم تغييب دور الحوزات العلمية في البناء الثقافي والمجتمعي.

والسؤال الذي ينبثق هنا، هل يمكن أن يغيب دور الحوزات العلمية في هذا المجال، وما هي اسباب غيابه؟، من الواضح أن الاجابة يمكن أن تأتي بهذا الخصوص بالايجاب، بمعنى، يمكن أن يغيب أو يغيَّب دور الحوزات في التكوين الثقافي الأمثل للمجتمع، أما الاسباب فقد تكون خارج اردة الحوزة، اي من مصدر خارجي يفرض عليها هذا الغياب الثقافي، وربما تكون الاسباب ذاتية، أي انها تنبع من الحوزة العلمية نفسها!.

في الحالة الاولى، عندما يكون التأثير على الحوزة والحد من فعاليتها ودورها الثقافي خارجيا، هذا يعني ان هناك جهات تقوم بهذا الفعل، وغالبا ما تكون هذه الجهات سلطوية سياسية، وتتمثل بالانظمة السياسية المنفردة بالسلطة، فمثل هذه الانظمة والحكومات لا تقبل ان يكون المجتمع مثقفا واعيا لأن هذه الميزة اذا اكتسبها المجتمع، سوف يعرف حقوقه وحدود حرياته ومصالحه، وهذا لا ترغب به الحكومات المستبدة، لهذا لا تقبل مثل هذه الانظمة السياسية أن يكون المجتمع واعيا، فترفض ان تقوم الحوزات العلمية بدورها في توعية المجتمع، وتثقيفه ورفع مستواه العلمي، لأنه في هذه الحالة يهدد مصالح الحكومة القمعية، وسلطتها ومناصبها وامتيازاتها، لذلك تحصل حالة الصراع بين الحوزات العلمية والحكومات القمعية التي لا تتورع عن استخدام ابشع طرق ووسائل القمع في الحد من دور الحوزات، وهذا ما تؤكده التجارب التاريخية والوقائع الراهنة ايضا مع بعض الحكومات الاسلامية، التي تدعّي حرصها على الحوزات العلمية ودورها الريادي علنا، ثم تضربها في الخفاء لكي تعرقل دورها في تثقيف المجتمع وبناء الدولة.

وهذا الدور المزدوج لبعض الحكومات الاسلامية معرف للجميع، فهي تنادي بالتطور المجتمعي قولا، وتدعو الحوزات العلمية الى القيام بدورها في التوعية والتثقيف بالكلام فقط، لذلك عندما تنشط الحوزات وتؤدي دورها في هذا المجال، تلجأ هذه الحكومات بالخفاء الى إفشال هذا الدور الحوزوي لبناء المجتمع، وتستخدم في ذلك كل شيء متاح لها، وغالبا ما تحرص ان تكون مضايقاتها للحوزات العلمية سرية وغير مكشوفة للعلن، علما ان هذه الحكوما لا تتورع عن اللعب المعلن في معاداة الحوزات واعتقال رجالاتها وغلق منافذ الاعلام التابعة لها، والتضييق على حرياتها ومحاربة مؤسساتها الثقافية وما شابه. ولكن بالنتيجة تفشل الحكومات في هذا الصراع مع الحوزات العلمية لأن الحق يعلو ولا يُعلى عليه.

أما الاسباب الذاتية في عدم قيام الحوزة العلمية بدورها الثقافي المجتمعي، فإن هذا يعود الى الحوزة نفسها والقائمين عليها، فهناك مثلا بعض الحوزات تضع نفسها في خدمة الحاكم حتى لو كان ظالما، فتصبح بذلك مؤسسة تابعة للسلطة، تأتمر بأوامرها وحتى تستلم رواتب منها، في هذه الحالة لا يمكن ان يكون هناك تأثير لمثل هذه الحوزات المصطفَّة مع الحكومات الظالمة، إلا على المتعاونين مع السلطة فقط بسبب ارتباط المصالح، أما المجتمع بشكل عام فهو يعرف الصورة تماما، ويعرف العلاقة الشائكة بين النظام القمعي وبين المؤسسة الدينية التابعة له، والتي ستفقد تأثيرها الكلي في البناء المجتمعي الثقافي، بسبب انحيازها التام للحكومة في جميع الاحوال كونها تابعة وليست مستقلة، كما هو الحال مع الحوزات العلمية المؤثرة في المجتمع بسبب حفاظها على استقلاليتها ودورها التام والحاسم في تثقيف المجتمع.

علما ان الاسباب الذاتية يمكن معالجتها من خلال تغيير منهج بعض الحوزات التابعة لبعض الحكومات، والعودة عن منهج التأييد الدائم للحكومة والاصطفاف معها ضد مصالح الشعب، واهم شيء في المجال استقلالية الحوزة العلمية، حتى تكون قادرة على مقارعة المنهج الحكومي المعادي للشعب، فالحوزات العلمية لا يمكن ان تقف مع الحاكم الظالم ضد الشعب، ولا يمكن ان تتنازل عن دورها المهم في بناء الثقافة المجتمعية التي تقوم بدورها ببناء دولة مستقرة متوازنة ومنتٍجة. 

اضف تعليق