q
إسلاميات - ثقافة إسلامية

لغة الورود

في الذكرى التاسعة لرحيل الفقيه الشيرازي

جئت أكتب لك ولكن تهتُ في محيط عطفك فضيّعتُ كلماتي.. وددتُ أنْ أنظمَ فيك القوافي، وجدتُ كل القوافي قوافيك فتنحيت جانبا، كنت أعظم مما أستطيع تقييدك في سطور ...وكنت أكبر مما أستطيع حصرك في حدود كلماتي، رفعت القلم وأقسمت بخالق النُّون والقلم وما يسطرون أن يمنحني القوة كي أسطّر حروفك على الورق.

شبّهتكَ بالورد كي أحلق في سماء إخلاصك وعطرك بارتياح.

أقلتُ الورد؟!

بل أنت حديقة ورود لست أنا من يقول ذلك، جميع من كان له صلة بك يشهد على ذلك، لو أنكَ ما كنتَ كذلك، لما بقيَ عبق رائحتك العطرة إلى الآن، ها قد مضى تسعُ سنوات منذ أن اقتُطِفَتْ وردةُ عمرك من حديقتنا، ولكن لازلنا مندهشين بعطر سجاياك الطيبة.

الورود هي الطبيعة الصامتة بين ضجيج البشر، وهي القلب النابض في ألم الحياة، الورود كما قيل بعضهم لغة يتداولها جميع البشر، مثلك تماما، حيث ملأ حبك كيان القريب والبعيد، وانجذب نحوك الصغير والكبير وقد تعلّم منك الكثير.

كنت كالورود تشكل عالماً مثالياً قائماً بذاته، لازلنا مندهشين عندما نقف عند بابك حيث يتكشَّف لنا الجمال من جديد.

كنت كالورد تماما تقابل الخير بالخير، تقابل الشّرّ بالخير وتقابل الإحسان بالإحسان، وتقابل الإساءة بالإحسان.

وقد شهد بذلك جميع من رآك وقابلك يوما ما، كما قال سماحة الشيخ الجليل الحاج إبراهيم معاش: من صفات السيد الجليل كان مثالا للتعامل بالحسنى، حسن الأخلاق وكان في قمة التواضع.

عندما كان احد تلاميذه يناقشه بالبحوث كان يستمع بكل رحابة صدر وتأنٍ وصبر، حتى أن أحد التلاميذ كان يسيء الأدب في طرح رأيه ومناقشته للآراء وكان يصر التلميذ على رأيه ويناقش السيد الجليل (رحمه الله) بكل عصبيه ويرفع صوته عاليا.. في النهاية كان السيد يبتسم له، وبكل تواضع يقول له أنا أقبل رأيكم ولا مانع من قبوله مع الأدلة القاطعة.

دائما كان في الدرس يطلب من تلاميذه أن يطرحوا آرائهم ويناقشوا البحث، لأنه كان يحب الاستماع لآراء الآخرين، في أكثر الأوقات كان هو الذي يستبق الآخرين بالسلام، كان مثالا للتقوى ويشجع كثيرا على طلب العلم وقضاء حوائج الآخرين و التعامل بالحسنى.

كان نعم الأب والأسوة الحسنة، كما قالت إحدى بناته (رحمه الله وأعلى الله درجاته).

أوحی الله تعالی الى موسى: یا موسی اخلص العمل فإن الناقد بصیر.

کان الفقیه المقدس من الذین اخلصوا الأعمال لله تعالی، فکان من العاملین فی السر والعلانیة لمرضاة الله، وكان من المداومين على قراءة الأدعية الشريفة، في ليالي الجمعة يزور كريمة أهل البيت (عليها السلام) ويقرأ الدعاء الشريف المروي عن الصحابي كميل (رحمه الله) جالسا في زاوية من الحرم الشريف.

وقد رآه كثير من المؤمنين ودموعه جارية على لحيته من شدة البكاء، وسمعت والدتنا المكرمة -الكلام لإحدى بنات الفقيه الراحل- في إحدى الليالي صوت أنين وبكاء من بعيد، فتفقدتُ الصوت وإذا بأبي (رضوان الله عليه) مناجيا الله تحت السماء.

و قد رأوه في موقف مشابه لمرات عديدة في منتصف النهار عند خلو المسجد المقدس من الزوار في جمكران، وكل ذلك في خفية وبدون إطلاع أحد.

كان كريم الأخلاق وطيب الكلام فلم نر منه (مع المعاشرة التي دامت لسنين طوال) أي تعامل سيء أو سوء الخلق ولو حتى لمرة واحدة على الإطلاق، كان يؤكد كثيرا في التربية على العمل الصحيح والقدوة الصالحة أكثر من النصيحة والتربية الكلامية.

فكان يعلّم المنتسبين إليه بالعمل الصالح ويربيهم بذكر القصص التوعوية في كل ليلة، او في كل نهار على مائدة الغداء، وإذا رأى موقفا لا يناسب ذويه سأل: أليس برأيك ذاك الموقف أو العمل أحسن؟ كان خلوقا وصبورا حتى مع صغار السن، فيناغي الطفل الرضيع أيضا بكلمات ولائية.

لم أرَ يُذكر فيه موقفاً سلبياً حتى من اللذين لم يوافقه في الفكر، وكان أثر كلامه الطيب يقع في كل النفو، كان يصل أرحامه ويؤنسهم ويكلمهم ويؤكد على العائلة بزيارته.

ومن شده إلمامه بالفقه إذا أراد مراجعة كتاب العروة الوثقى في طلب مسألة، فتح الصفحة التي توجد فيها المسألة والتي قبلها أو بعدها ومع ذلك كان يحتاط في الجواب، وكان يراجع الكتاب إذا سأل منه أحد سؤالاً، فكان شديد الولاء لأهل البيت عليهم السلام ، وفي أيام الحزن كان الحزن واضحا على محياه، لم يشترِ أي شيء من احتياجات البيت في استشهاد المعصومين و الأيام العشرة في المحرم.

و إذا أذيع صوت القراءة الحسينية من التلفاز وضع أي شيء في يده على الأرض وجلس جلسة الحزين وغطى وجهه بكفه حتى نهاية القراءة، لم يمدد رجله أبدا في اتجاه مكان فيه شيء مقدس، من كتاب أو صورة أو أسماء المعصومين، ولو كان ذلك الشيء المقدس في مكانٍ عالٍ أو بعيد، أوصانا بكثرة وفي محاضراته أيضا أن نتمسك بالمعصومين ونتمسك بحبلهم وأن ندعوهم حتى تشملنا عنايتهم وشفاعتهم.

وقال سماحة الشيخ الجليل الحاج عبد الرضا معاش :

في إحدى المرات أردنا أن نسافر أنا والسيد من الكويت إلى سوريا، عندما وصلنا الى المطار سألت السيد: -- سيد أين حقيبتك؟.

قال: هذه هنا.

قلت: أين لم أرَ شيئًا؟.

قال: حقيبتي هذه (البقجة).

قلت: سيدنا لا يصح أن تسافروا مع (بقجه).

قال: عادي أخبئها تحت عباءتي.

قلت: سيدنا ممكن أن يكون هذا في الماضي، أما الآن فقد تغيّرتْ الحياة والنَّاس تسافر مع (جنطه).

فتبسّم السّيد ..وحاولت إقناعه بشده كي يأخذ حقيبة، فأوصيت جماعة من الأصدقاء وعادوا له من السوق بحقيبة ووضعوا (البقجه) في الحقيبة.. (لقد كان السيد يتعامل بزهد في حياته، وكان يعتبر هذه الأمور ثانوية وليست ضرورية).

كالورد أنت في حياتنا، حملت العديد من الّلغـات الخـاصّة بـك، فللورد أنت روح، وكنت أنت الروح للعلم والعمل.

وللـورد كـبريـاء وأصبحت بأخلاقك في كبرياء.

وللورد جمـال، فحملت جمال الأخلاق في كل أعمالك.

وللـورد حــبّ وأنت فسّرت معنى الحب لله وفِي الله.

حاولت إصلاح العالم وتزيينه بلمسات من الحب والبهاء.

وللورد تواضع فتواضعت ورفعك الله في أعلى علييّن.

وللورد العديد من الّلغات حين تتعطـّل لغة الكلام وأنا لغتي ليست جيدة بما يكفي .

اضف تعليق