q

عند تحليل مسارات الحياة المهنية للتعليم العالي في كوريا الجنوبية وأمريكا وألمانيا وسنغافورة واليابان وبريطانيا وأستراليا، يتجلى واضحاً أن تلك الدول استجابت إلى فلسفة قدمت قدرا أوفر من المرتكزات التي ساهمت في تصميم هياكل التعليم العالي وتوجهاته وسياساته وأدارته ووظائفه العلمية والمعرفية فضلا عن تفعيل نظام المحاسبة والرقابة الخارجية والشفافية وتحفيز البحث العلمي مما جعلها دول منتجة للمعرفة العلمية والأبداع والابتكار والريادة. حسنا، كيف حصل كل ذلك؟

يأتي الجواب من مفهوم الحوكمة والذي يعد منطقاً مهماً وحاسماً في إنتاج تعليم عال فعال ومتماسك وقوي. فقد جاهدت هذه الدول من اجل تفكيك الحوكمة الكلاسيكية لتحل محلها بشكل أساس أنماط جديدة من الحوكمة على رأسها نظام لا مركزي الذي ساهم في تطور نظم التعليم العالي وجعلها متميزة. وشأنه شأن عدد من التعليم العالي يتعين النظر في إعادة تشكيل التعليم العالي في العراق من عدة زوايا وعلى رأسها الحوكمة لآن في ظل الواقع الحالي للتعليم العالي في العراق فلا يمكن أن يتطور البلد خاصة في اتباع نظام مركزي تأسس في سبعينيات القرن الماضي والذي يعتمد على تراكم السلطات والقرارات في المراكز العليا من الإدارة. من خلال اطلاعي على نظُم تعليم عالمية، أرى أن إعادة هيكلة النظام التعليم العالي في العراق على وفق التشكيل الاتي قد يحقق التمُيز ويفكك المهام التقليدية وسيوفر حراكاً مهماً لتطوير مؤسسات التعليم العالي ومخرجاتها وبالتأكيد أن ذلك سينعكس على تطور المجتمع واقتصاد الدولة.

مجلس السياسات والرؤى الاستراتيجية

يعمل هذا المجلس على رسم الرؤى والتوجهّات والبرامج ووضع الآليات والترتيبات اللازمة لتحقيق الرؤية والأهداف ووضع برامج وتصورات تساهم في تنظيم قطاع اعتاد أن يكون محليا ومن ثم العمل على نقلة إلى العالمية. كما يعمل هذا المجلس على تعزيز مفهوم الجدارة والاستحقاق والريادة والابتكار والتوجه نحو الأفضل بما يتناسب مع الانسجام والتكامل مع الجامعات العالمية وإزالة العوائق والصعوبات التي تؤثر على تحقيق كل ما هو متعلق بذلك.

أما ماليا يتولى هذا المجلس وضع وتحديث آليات اعتماد تمويل البرامج والمبادرات، وإعداد وتحديث الآليات التفصيلية التي يتم من خلالها اعتماد المتطلبات المالية للبرامج والمبادرات. لتحقيق ذلك فلابد من الارتكاز على مرحلتين جوهريتين أساسيتين ترتكز كل منهما على الأخرى، الأولى مرحلة تحديد الرؤى ووضع التصورات ورسم الاستراتيجيات، والثانية وهي المهمة جداً، وهي مرحلة تحويل الرؤى والتصورات والاستراتيجيات إلى برامج تنفيذية وفق مراحل وخطوات عملية يكون لها أثر ملموس على أرض الواقع. يشترك في عضوية المجلس خبراء من داخل العراق وخارجة متخصصين في شؤون التربية والتعليم وليس لهم أي ارتباط مباشر وغير مباشر بالجامعات. من أمثلة المراكز الاستراتيجية همها لجنة الاتحاد للتخطيط التربوي والبحث العلمي في المانيا ومكتب التربية والتعليم في البيت الأبيض.

تشكيل اتحاد الجامعات

لا يعني اتحاد الجامعات هو العمل في ظل تشابه الأنظمة الإدارية في الجامعات، بل هو إعطاء الاستقلالية للجامعات والعمل ضمن أنظمة مختلفة تساهم في تحقيق الأهداف ولكنها تنخرط ضمن اتحاد أو مجلس للجامعات. أن وظيفة اتحاد الجامعات هو تنفيذ الخطط الاستراتيجية التي يوضعها مجلس السياسات والرؤى الاستراتيجية ولكن بطرق تناسب إمكانية الجامعة وثقافتها. وهناك وظيفة أخرى لمجلس الجامعات وهي أن يقوم بعملية التنسيق بين الجامعات وتبادل الخبرات ومن أجل تشخيص المعوقات التي تواجه الإجراءات التنفيذية والعمل على حلها. كما أن هذا المجلس سيساعد الجامعات المستحدثة والجامعات ذوات الأداء الضعيف على الاستفادة من خبرات الجامعات العريقة ذوات الأداء المتميز. فضلا عن ذلك يقوم المجلس برفع التقارير إلى مجلس السياسات الاستراتيجية عن معوقات تطبيق الخطط الاستراتيجية. كما أن هذا المجلس سيمنع التدخلات السياسية في عمل الجامعات وذلك من خلال استقلاله عن السلطة المباشرة لوزارة التعليم العالي. أن هذا النظام معمول به في أمريكا فيوجد اتحاد جامعات ولاية نيويورك واتحاد جامعات ولاية أريزونا وغير ذلك من الاتحادات. مجلس الجامعات لا يعني استخدام أسلوب إدارة واحد لكل الجامعات كما هو معمول به حاليا أو استخدام أسلوب "القطاعية" من اجل الوصول إلى الهدف, فجامعة هارفرد وبرنستون دائما ما يتنافسون على المركز الأول عالميا, ولكن كل منهما تعمل في أسلوب إدارة مختلف. المهم هو الوصول إلى نفس النتيجة باستخدام أكثر من طريقة مختلفة.

تشكيل هيئة وطنية للاعتماد الأكاديمي والجودة والتقويم

لم يعد مقبولاً لدى أرباب العمل والمستفيدين أن يكون تعليم ما بلا مراقب خارجي (external oversight) ولذلك سارعت غالبية الدول ومنذ عقود خلت بتأسيس هيئات مستقلة مهمتها مراقبة أداء الجامعات والتأكد من أنها تؤدي المهام الموكلة اليها . ولكن من الغرابة أن نرى أن التعليم العالي العراقي هو الوحيد من بين نظُم التعليم الذي لايزال بلا مراقب خارجي. وعلية لابد من تشكيل هيأة للاعتمادية والجودة على أن تكون هذه الهيئة مستقلة مالياً وإدارياً عن بقية مفاصل التعليم العالي، ويكون لها أشراف واسع النطاق على جميع جامعات العراق. تتولى هذه الهيأة دراسة وتحليل وتقييم واقع الجامعات العراقية وفقاً لمعايير الاعتماد الأكاديمي.

فضلا عن تشخيص العوائق والمشكلات التي تواجه تنفيذ الاستراتيجيات والبرامج والمشروعات المحققة للأداء الأفضل. فتقوم الهيأة بمراقبة مؤشرات الأداء ومن ثم الإشراف والمتابعة المستمرة للجامعات، ومراقبة مدى تحقيقها لأهدافها. أن هيئة الاعتماد الأكاديمي ستكون الذراع الداعمة لمجلس السياسات والرؤى الاستراتيجية في عمله مع الجامعات بغرض تحقيق الرؤية والتوجهات، من خلال تقديم الدعم في مراقبة الجامعات وإنجازها وتنفيذها لأعمالها طبقا لمعايير الجودة والاعتماد الأكاديمي. بكل تأكيد أن الهيئة ستوفر المعلومات اللازمة من بيانات وإحصاءات ودراسات إلى مؤسسات التعليم العالي عن مدى نجاعة الخطط الموضوعة والبرامج التنفيذية. كما أنها ستكون نافذه مهمه لتوجيه الأفراد نحو مصادر المعلومات التي ستساعدهم في التفريق بين الجامعات الرصينة وبين التي تقدم درجات علمية من أجل المال.

هيئة البحث العلمي

البحث العلمي في العراق هو غير واضح المعالم والتوجهات وربما يعود السبب في ذلك إلى هو عدم وجود مرجعية واضحة تعمل على توجيه بوصلة البحث العلمي على العكس من كثير من الدول التي توجد فيها هيئات بحثية حكومية وغير حكومية. للنهوض بالبحث العلمي نحتاج إلى تشكيل هيأة مستقلة للبحث العلمي والابتكار تعمل على دعم ورعاية البحث العلمي في الجامعات وتعمل الهيئة أيضا على دعم الابتكارات العلمية وتشجيعها كجزء مكمل لمنظومة البحث العلمي وتعمل على توفير تمويل البحوث العلمية وتوجيه الطاقات البحثية بالجامعات والمراكز والمعاهد البحثية لخدمة متطلبات التنمية الوطنية كما تعمل الهيئة على تأسيس علاقة تربط الجامعات بقطعات الصناعة والاقتصاد والمجتمع. كما يمكن لهذه الهيئة أن تعمل على انتاج برامج دراسية وتدريبية للباحثيين وذلك في إطار برامج بحثية علمية مختلفة (post doctorate على سبيل المثال) في مناخ بحث علمي متميز. كما يمكنها أن تكون تخصصية وذلك من خلال أدراج تخصصات بحثية بمسميات مختلفة كالطب والعلوم والتربية والاقتصاد...الخ

أن اتباع هذا الهيكل التنظيمي أعلاه سيساهم في توحيد الجهود عن طريق وضوح الأهداف ومشاركة جميع المؤسسات في تحقيق الأهداف. كما سيركز على الإنجاز، وذلك من خلال تقسيمات العمل، ومن خلال اللامركزية في جميع مستويات العمل والعمل على تهيئة البيئة الإبداعية والابتكارية المناسبة. ان الرقي بمستوى التنظيم مطلب أولي لإصلاح التعليم وتلك غاية عظمى لا تقبل الانشغال بغيرها، وعلية لا بد من صناعة هيكل تنظيمي جديد للتعليم العالي يناسب المتغيرات المعرفية والاجتماعية والاقتصادية للدولة.

* باحث وأكاديمي-إدارة وسياسة تربوية-جامعة بافلو/أميركا

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق