q

بعد أزمة انخفاض أسعار النفط، الذي يمثل صفعة قوية للدول المنتجة للنفط، استفاقت هذه الدول من غفوتها الطويلة، وشكل اعتمادها شبه التام على إيراد أوحد بما يعود عليها تصدير النفط من أموال، خطأً فادحا في عالم الاقتصاد، ولم تكن هذه الدول التي وصفها المختصون في الاقتصاد، بأنها دول ريعية، وهم يقصدون بذلك أنها تعتمد على مصدر أوحد لتحصيل إيراداتها.

بعد هذه الصفعة القوية والمفاجئة تحركت هذه الدول لاعادة هيكلة الاقتصاد، واتخاذ اجراءات تقشف غير مسبوقة، أملا منها في تصحيح نهجها الاقتصادي الخاطئ، وقد تطلبت مثل هذه الاجراءات الخانقة أن تتكيف دول الثراء مع اجراءات التقشف من زيادة في الضرائب وتسريح للعمال وتقليل للوظائف، وتقليل للانفاق الحكومي.

كل هذه الخطوات تمثل مصاعب كبيرة لهذه الدول، فالسعودية وهي أكبر دول العالم تصديرا للنفط، تمر بفترة تكيف مطولة مع انخفاض أسعار النفط الذي تسبب في عجز يبلغ نحو 100 مليار دولار في ميزانية الدولة وأرغم الحكومة على إجراء تخفيضات في الانتاج. وعلى مدى عشرات السنين اعتمد كل وجه من أوجه الاقتصاد على تدفق أموال النفط ومن ثم فالتقشف يعد خبرا سيئا لأرباح الشركات السعودية.

ووضعت الكثير من هذه الدول خطط اقتصادية متنوعة، كلها تقوم على مبدأ التقشف وتقليل الانفاق، من اجل تجاوز المصاعب التي خلفها هبوط اسعار النفط، فمثلا أعلنت السعودية عن خطة للحد من اعتمادها على صادرات النفط المتقلبة مما يظهر تخوف بعض المستثمرين من عدم تمكنها من جمع إيرادات كافية لإنجاح الإصلاحات

وبسبب بعض الاجراءات السعودية ايضا تشير تكلفة التأمين على الدين السعودي لخمس سنوات من مخاطر العجز عن السداد إلا أن الأسواق المالية تعتقد أن ذلك مطلب كبير. فقد ارتفعت التكلفة إلى 155 نقطة في الأسبوعين الأخيرين من 145 نقطة وهو ما يظهر زيادة مخاطر التخلف عن سداد الديون، في حين قال ستيفن هيرتوج وهو خبير في كلية لندن للاقتصاد ومؤلف كتاب عن البيروقراطية السعودية إن "التحدي الرئيسي للرؤية وللاقتصاد السعودي هو الاستدامة المالية." وأضاف أن الضرائب المتوقعة من القطاع الخاص أقل كثيرا من متطلبات الإنفاق الحكومي ومن الصعب زيادتها في ظل اعتماد الشركات على العقود الحكومية وطلب المستهلكين الذي تغذيه رواتب الدولة.

وقد اندفعت الحكومة السعودية بشكل كبير نحو اتخاذ تدابير تقشفية كبيرة، وكأنها وعت على نفسها الآن بعد عصور الثراء الفاحش التي عاشها السعوديون، والآن يغادرون ذلك الثراء الى مصاعب التقشف، فقد أعلنت الحكومة السعودية في ديسمبر كانون الأول الماضي مجموعة من التدابير التي لم يسبق أن اتخذت ما يماثلها في الصرامة وذلك في شكل تحفظات في الدعم أدت لارتفاع الأسعار المحلية للبنزين والكهرباء والماء وكذلك الغاز الطبيعي المستخدم كمادة خام في صناعة البتروكيماويات.

ومن بين الشرائح التي تضررت من الاجراءات المشددة للحكومة، الطبقة العاملة والموظفون، على الصعيدين الداخلي والخارجي، فالعمالة الوافدة من الخارج تعرضت للتسريح الاجباري، كما تعرضت النفقات الحكومية الى ضغوط كبيرة، حيث يعمل في السعودية اكثر من 6,5 ملايين اجنبي، علما ان عدد المواطنين في المملكة يناهز 21 مليونا. وتتوزع العمالة الاجنبية في مجالات متنوعة، من المناصب الادارية العليا الى المهام الصغيرة كتنظيف الشوارع او الخدمة في المطاعم والمنازل، وهي وظائف عادة ما يحجم السعوديون عن القيام بها. ويبلغ عدد السعوديين العاملين في القطاع الخاص نصف عددهم في القطاع العام حيث امتيازاتهم افضل، كساعات عمل اقل واجازات اطول.

ومن بين الخطوات في هذا الجانب ما قامت به احدى الشركات الكبيرة، من عمليات تسريح واسعة لعمالها دون أن تحسب حسابهم بعد أن عاشوا سنوات طوية في بحبوحة الثراء، فقد ذكرت صحيفة "الوطن" السعودية أن مجموعة "بن لادن" للبناء قد أنهت خدمة 50 ألف عامل، كلهم من الأجانب، بسبب الضغوط على قطاع الإنشاءات الناجم عن تخفيضات الإنفاق الحكومي. وقالت صحيفة "الوطن" السعودية أن مجموعة بن لادن السعودية للبناء استغنت عن 50 ألفا من موظفيها، مع تزايد الضغوط على القطاع في ظل تخفيضات الإنفاق الحكومي لمواجهة تدني أسعار النفط، كذلك هناك تحديدات في السياسة المالية والتعامل مع البنوك والضرائب.

لا نية لتغيير سياسة سعر الصرف

في هذا السياق قال أحمد الخليفي محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي (البنك المركزي) إن المملكة لا تنوي تغيير سياسة سعر الصرف. وقال الخليفي المعين حديثا "المؤسسة لا تنوي تغيير سياسة سعر الصرف.. لا يوجد فوائد من تغيير سعر الصرف الحالي."

وذكر أن الريال شهد مضاربات بسبب تكهنات السوق باحتمال تغيير السياسة. وقال "ما يتعرض له الريال السعودي حاليا هو بعض المضاربات في أسواق الصرف بسبب تكهنات تظهر بين الحين والآخر بأن المملكة ستغير سعر الصرف نظرا لأن المضاربين يعتقدون بأن انخفاض دخل النفط سيؤثر على وتيرة النمو الاقتصادي بشكل حاد."

وتابع قوله "قد يكون هذا مقبولا في الاقتصاديات التي لا تتمتع باحتياطيات حكومية كبيرة لكن وضع المملكة مختلف." ويشكل ربط الريال بالعملة الأمريكية عند 3.75 ريال مقابل الدولار حجر الزاوية في سياسة المملكة منذ عام 1986. لكن انهيار أسعار النفط منذ 2014- والذي خلق عجزا بالميزانية الحكومية قدره 100 مليار دولار- عزز تكهنات في الأسواق المالية حول إمكانية صمود الربط لأعوام طويلة قادمة بحسب رويترز.

وعين الخليفي- الذي كان في السابق وكيلا لمحافظ مؤسسة النقد العربي السعودي للأبحاث والشؤون الدولية- محافظا للمركزي في تعديل شمل كبار صناع السياسة في السابع من مايو ايار. ونشر باحثون من المركزي السعودي ورقة بحثية الشهر الماضي- قبل ترقية الخليفي- تؤكد أن الإبقاء على الربط ربما يكون النهج الأمثل للمملكة في المستقبل القريب لكنها لمحت إلى أن المملكة قد تحتاج لتغيير هذه السياسة إذا تغيرت الظروف الاقتصادية.

ضعف خطة إصلاح الاقتصاد السعودي

في سياق مقارب ارتفعت تكلفة التأمين على الدين السيادي السعودي من خطر عدم السداد منذ أعلنت المملكة عن خطة للحد من اعتمادها على صادرات النفط المتقلبة مما يظهر تخوف بعض المستثمرين من عدم تمكنها من جمع إيرادات كافية لإنجاح الإصلاحات. وتتضمن الخطة التي أعلنت مؤخرا تأسيس أكبر صندوق ثروة سيادي في العالم وبيع أصول حكومية ونقل مسؤولية النمو إلى القطاع الخاص غير النفطي في ظل عدم وضوح متى ينتهي هبوط أسعار النفط.

وقال ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إن المملكة ستستطيع أن تحيا بدون الاعتماد على النفط بحلول 2020. والحاجة لذلك ملحة. ففي العام الماضي بلغ عجز الميزانية 367 مليار ريال (98 مليار دولار) بما يعادل 15 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي وهو مستوى سيطلق جرس إنذار في الأسواق المالية إذا استمر لعامين أو ثلاثة أعوام أخرى.

غير أن الخطة تتطلب إيرادات جديدة بعشرات المليارات من الدولارات من القطاع الخاص ليس لدعم الميزانية الحكومية فحسب ولكن أيضا لدفع مقابل نصيب الحكومة من مشروعات التنمية.

وتشير تكلفة التأمين على الدين السعودي لخمس سنوات من مخاطر العجز عن السداد إلا أن الأسواق المالية تعتقد أن ذلك مطلب كبير. فقد ارتفعت التكلفة إلى 155 نقطة في الأسبوعين الأخيرين من 145 نقطة وهو ما يظهر زيادة مخاطر التخلف عن سداد الديون عشرة بالمئة على مدى السنوات الخمس القادمة بحسب رويترز.

وقال ستيفن هيرتوج الخبير بكلية لندن للاقتصاد ومؤلف كتاب عن البيروقراطية السعودية "التحدي الرئيسي للرؤية وللاقتصاد السعودي هو الاستدامة المالية." وأضاف أن الضرائب المتوقعة من القطاع الخاص أقل كثيرا من متطلبات الإنفاق الحكومي ومن الصعب زيادتها في ظل اعتماد الشركات على العقود الحكومية وطلب المستهلكين الذي تغذيه رواتب الدولة.

وقالت وزارة المالية السعودية إن الإيرادات غير النفطية زادت 29 بالمئة العام الماضي. لكن الزيادة ترجع كليا تقريبا إلى دخل الاستثمارات إلى جانب "إيرادات أخرى" غير محددة وهي مصادر لا تستطيع الحكومة أن تتوقع ارتفاعها بشكل كبير ومستدام.

وتقول الرياض إنها ستزيد عائدات استثماراتها من خلال إدارة أموالها بشكل أكثر جرأة. لكن البيئة العالمية الحالية لن تجعل ذلك أمرا سهلا. وقال سانكار سينجام الرئيس التنفيذي لكومبيتير جروب للاستشارات "لن يحصلوا على عائدات كبيرة في أنحاء العالم لأنه ما من أحد يحصل على مثل تلك العائدات." وسيتطلب الأمر إجراءات جديدة لزيادة الإيرادات غير النفطية نحو 100 مليار دولار على مدى السنوات الخمس القادمة.

شركات السعودية تتكيف مع التقشف

وجاء أداء الشركات السعودية أفضل في زمن التقشف مما كان كثير من المستثمرين يخشونه، لكن هذه الشركات تواجه المزيد من المتاعب في الأشهر المقبلة مع تزايد صعوبة تحقيق مكاسب من خفض التكاليف وجهود تحسين كفاءة العمل.

وتمر السعودية أكبر دول العالم تصديرا للنفط بفترة تكيف مطولة مع انخفاض أسعار النفط الذي تسبب في عجز يبلغ نحو 100 مليار دولار في ميزانية الدولة وأرغم الحكومة على إجراء تخفيضات في الانتاج. وعلى مدى عشرات السنين اعتمد كل وجه من أوجه الاقتصاد على تدفق أموال النفط ومن ثم فالتقشف يعد خبرا سيئا لأرباح الشركات السعودية.

وفي ديسمبر كانون الأول الماضي أعلنت الحكومة مجموعة من التدابير التي لم يسبق أن اتخذت ما يماثلها في الصرامة وذلك في شكل تحفظات في الدعم أدت لارتفاع الأسعار المحلية للبنزين والكهرباء والماء وكذلك الغاز الطبيعي المستخدم كمادة خام في صناعة البتروكيماويات. وتبين أرباح الربع الأول التي أعلنتها الشركات السعودية المدرجة في البورصة خلال الأسابيع القليلة الماضية أن الكثير منها استطاع تجنب حدوث انخفاض حاد في الأرباح.

وتوضح حسابات رويترز أن صافي الأرباح المجمعة لأكبر 50 شركة سعودية من حيث قيمة رأس المال - والتي تمثل النسبة الأكبر من كل أرباح شركات سوق الأسهم - انخفضت بنسبة 3.0 في المئة فقط عما كانت عليه قبل عام لتصل إلى 19.88 مليار ريال (5.4 مليار دولار).

ومن عوامل القلق الأخرى للبنوك تباطؤ نمو الودائع بسبب انكماش التدفقات من أموال النفط. وقد انكمش إجمالي الودائع المصرفية بنسبة 0.6 في المئة عما كان عليه قبل عام في مارس آذار الماضي بعد أن كانت تنمو بمعدل يفوق العشرة في المئة حتى العام الماضي.

وقال اقتصادي سعودي يعمل مع الحكومة طلب عدم نشر اسمه لأنه ليس مخولا سلطة الحديث مع وسائل الإعلام "يعتقد كثيرون أن نتائج البنوك بصفة خاصة في الربع الأول من العام الجاري مؤشر متأخر وليس استشرافيا أي أن النتائج تعكس أيام ما قبل تغيير الدعم أكثر مما تعكس شيئا آخر." وأضاف "في الأرباع المقبلة ستبدأ في رؤية تزايد التخلف عن السداد ودخول البنوك في حالة من البلبلة ولذلك ستتدهور النتائج." بحسب رويترز

وقد انخفضت أرباح الشركات العشر الكبرى في قطاع البتروكيماويات بنسبة 8.9 في المئة في الربع الأول إلى 4.33 مليار ريال لكن هذا الانكماش جاء أفضل كثيرا منه في 2015 عندما أدى انخفاض أسعار المنتجات بسبب رخص النفط إلى تقليص الأرباح بنسبة 36.9 في المئة.

وأعلنت الشركة السعودية للصناعات الأساسية (سابك) إحدى أكبر شركات البتروكيماويات في العالم انخفاضا بنسبة 13.2 في المئة أرباح الربع الأول لتصل إلى 3.41 مليار ريال لكن هذا الرقم جاء أعلى من متوسط توقعات المحللين الذي بلغ 2.84 مليار ريال.

وقال الجبران "قد يثبت أن جزءا من الاستراتيجية الحالية التي تبنتها الشركات لتحسين كفاءة الأداء وخفض التكاليف غير قابلة للاستمرار لأن الهوامش ستنكمش في الأرباع المقبلة إذا زادت أسعار خام اللقيم الحالية والتي مازال بعض اللاعبين يستخدمونه بأسعار مخفضة." وتكشف أرباح شركات تجارة التجزئة أثر التقشف على الطلب الاستهلاكي في المملكة حيث تم الاستغناء عن بعض من العمال الوافدين البالغ عددهم عشرة ملايين وأعيدوا إلى بلادهم.

وكان من أسباب هذا الانخفاض قوة المبيعات على غير المعتاد في الربع المقابل من العام السابق الذي حصل فيه موظفو القطاع العام على منحة تعادل مرتب شهرين بمناسبة تولي الملك سلمان الحكم لكنها عكست أيضا تدهور معنويات المستهلكين.

في السعودية الاستغناء عن 50 ألف موظف

من جهتها ذكرت صحيفة "الوطن" السعودية أن مجموعة "بن لادن" للبناء قد أنهت خدمة 50 ألف عامل، كلهم من الأجانب، بسبب الضغوط على قطاع الإنشاءات الناجم عن تخفيضات الإنفاق الحكومي. وقالت صحيفة "الوطن" السعودية أن مجموعة بن لادن السعودية للبناء استغنت عن 50 ألفا من موظفيها، مع تزايد الضغوط على القطاع في ظل تخفيضات الإنفاق الحكومي لمواجهة تدني أسعار النفط.

وبن لادن واحدة من كبرى الشركات السعودية، ومن بين أكبر شركات البناء في الشرق الأوسط. ويقدر عدد العاملين بالمجموعة بحوالي 200 ألف عامل. ونقلت الصحيفة عن مصادر لم تسمها القول إن المجموعة أنهت عقود العاملين البالغ عددهم 50 ألفا - وجميعهم أجانب على ما يبدو - ومنحتهم تأشيرات خروج نهائي لمغادرة المملكة.

وذكرت الصحيفة أن العاملين رفضوا مغادرة البلاد "إلا بعد صرف مستحقاتهم المتأخرة التي تمتد لأكثر من أربعة أشهر". وأضافت أن هؤلاء العاملين يحتشدون أمام مقرات الشركة في أنحاء المملكة "بشكل شبه يومي" بحسب فرانس برس. ولم ترد مجموعة بن لادن على رسالة إلكترونية تطلب التعليق بحسب رويترز.

وازدهرت مجموعة بن لادن إبان الطفرة الاقتصادية السعودية في السنوات العشر الأخيرة ووظفت نحو 200 ألف عامل مع تشييدها الكثير من مشاريع البنية التحتية الكبرى في المملكة، مثل المطارات والطرق وناطحات السحاب يذكر أن العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز قد أمر في أيلول /سبتمبر الماضي بوقف تصنيف مجموعة بن لادن ومنعها من دخول مشاريع جديدة، بعد حادث سقوط رافعة بالحرم المكي أودى بحياة 107 أشخاص.

السعودية تراجع خطط المدن الاقتصادية

في سياق آخر تعيد السعودية النظر في خطط لإقامة مركز مالي فخم في الرياض وست مدن صناعية بعد التأخيرات التي شابت المشاريع وعدم تحمس المقيمين المحتملين والمستثمرين.ويشير التقييم الحكومي الصريح والعلني إلى عدم تردد ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في التعامل مع المشاريع التي كانت تحظى يوما بدعم سياسي على أعلى مستوى في الوقت الذي يباشر فيه برنامجا للإصلاح الاقتصادي أطلق هذا الأسبوع.

وقالت وثيقة تتضمن الخطوط العريضة لخطة الإصلاح "رؤية السعودية 2030" صدرت يوم الثلاثاء إن السلطات ستسعى "لإنقاذ" المدن الصناعية التي كانت تهدف إلى تنويع موارد الاقتصاد بدلا من الاعتماد على النفط وخلق فرص العمل. وقالت إن تشييد المركز المالي بدأ "دون مراعاة الجدوى الاقتصادية" وإن المشروع لم يقنع مجتمع المال بالاستثمار.

وحذرت الوثيقة من "استحالة تأجير المساحات المبنية والتي وصلت إلى ثلاثة ملايين متر مربع بأسعار مقبولة أو حتى الوصول إلى نسبة إشغال معقولة تحقق عوائد مجدية." وأضافت أن الحكومة ستسعى لهذا السبب لتحويل المركز إلى منطقة خاصة ذات لوائح وإجراءات تنافسية على أن تكون مستثناة من تأشيرات الدخول مع ربطها مباشرة بمطار الرياض الدولي.

وقالت "سنعمل على إعادة ترتيب وتوزيع المساحات في المركز لزيادة النسب المخصصة للسكن والمناطق الخدمية مقابل المكاتب." وسيستضيف المركز المالي مقر صندوق الاستثمارات العامة الحكومي الذي يعتزم الأمير محمد زيادة أصوله في إطار برنامج الإصلاح إلى سبعة تريليونات ريال (1.9 تريليون دولار) مقارنة مع 600 مليار ريال حاليا. وأقرت وثيقة الإصلاح بالصعوبات التي تواجه جهود إنشاء "المدن الاقتصادية" الست بحسب فرانس برس.

وقالت الوثيقة عن مشاريع المدن الاقتصادية "توقف العمل في عدد منها وتواجه أغلبها تحديات حقيقية تهدد استمراريتها." وقالت "عملنا على إعادة هيكلة مدينة جازان الاقتصادية لتحقيق قيمة مضافة للاقتصاد عبر التعاون مع شركة أرامكو" مشيرة إلى شركة النفط الوطنية العملاقة. وأضافت "سنسعى لإنقاذ بعض المدن الاقتصادية الأخرى التي تمتلك المقومات اللازمة عبر السعي للعمل مع الشركات المالكة لهذه المدن على إصلاح وضعها ونقل بعض المنشآت الحيوية إليها."

"أرامكو" السعودية عازمة على التوسع

من جهته اعلن رئيس شركة "ارامكو" السعودية أمين الناصر ان الشركة الوطنية العملاقة التي سيطرح جزء منها للاكتتاب العام، ستواصل عمليات التوسع لتلبية نمو الطلب في سوق النفط العالمية، رغم اسعاره المنخفضة. وقال الناصر لمراسلين بينهم صحافي في وكالة فرانس برس خلال جولة في مقر الشركة بالظهران في شرق المملكة، "ستستمر أرامكو السعودية في التوسع".

واعتبر انه على رغم الانخفاض الحاد في أسعار النفط منذ منتصف العام 2014، فان فرص التوسع لا تزال متاحة. وقال "رغم ان (المناخ الاقتصادي الراهن) صعب، الا انه فرصة ممتازة للنمو"، مضيفا "سيكون هناك توسع في مختلف اوجه ارامكو السعودية".

وشدد الناصر على متانة وضع ارامكو التي تنوي السلطات السعودية طرح جزء محدود منها للاكتتاب العام، على ان تخصص عائدات هذا الطرح لتمويل صندوق استثماري يقدر ان تبلغ قيمته الفي مليار دولار، وسيكون الاضخم عالميا. ويندرج ذلك في اطار خطة اقتصادية طموحة اعلنتها المملكة بعنوان "رؤية السعودية 2030" تهدف لتقليل الاعتماد على العائدات النفطية.

واكد الناصر ان "الاتجاه (في الطلب على النفط) يتزايد"، والشركة "ستلبي ذلك"، موضحا ان المعدل اليومي للانتاج في السعودية بلغ 10,2 مليون برميل عام 2015. واشار الى ان توسعة حقل الشيبة النفطي التابع للشركة في شرق المملكة ستساهم في زيادة الانتاج بمعدل "250 الف برميل يوميا". واوضح مسؤولون في الشركة ان عمليات التوسعة في حقل الشيبة ستتيح رفع معدل الانتاج اليومي من 750 الف الى مليون برميل في تموز/يوليو المقبل، الامر الذي يؤكد احتفاظ المملكة بقدرتها الانتاجية اليومية وحجمها 12 مليون برميل.

وانخفضت اسعار النفط بشكل حاد منذ منتصف 2014، وتراجع سعر البرميل من اكثر من مئة دولار، الى مستويات اعلى بقليل من 40 دولارا. ويعود هذا الانخفاض بشكل اساسي الى فائض في الكميات المعروضة وتباطؤ في نمو الطلب عالميا، خصوصا من الصين. وتوقع الناصر ان يعود التوازن بين العرض والطلب في السوق النفطية "بحلول نهاية السنة (الجارية، او) في الربع الاول من السنة المقبلة".

وردا على سؤال عن عودة النفط الصخري الاميركي الى الاسواق في حال عودة سعر البرميل الى الخمسين دولارا، رأى الناصر ان ارتفاع الاسعار سيؤدي "طبعا" الى زيادة انتاج النفط بمختلف انواعه. الا انه اعتبر ان هذا الامر "سيتطلب وقتا"، مضيفا "مع الطلب الاضافي الذي نتوقعه لا ارى مشكلة في انتظام الاسعار".

وكانت السعودية من ابرز الرافضين لخفض انتاجها من النفط، في خطوة رأى المحللون ان سببها الخشية من فقدان حصتها في الاسواق العالمية. كما ان من اهداف المنتجين الكبار بقاء الاسعار منخفضة من اجل دفع منتجي النفط العالي الكلفة للخروج من الاسواق. وعلى النطاق العالمي، اشار الناصر الى ان "ارامكو" التي يقدر المسؤولون السعوديون قيمتها بزهاء الفي مليار دولار، "تبحث عن مشاريع مشتركة" منها في آسيا، لاسيما في الصين والهند واندونيسيا وفييتنام.

وفي سياق تنويع نشاطاتها، بدأت الشركة العمل على مشروع مجمع بحري "بمواصفات عالمية" سيتيح خلق 80 الف وظيفة مباشرة وغير مباشرة، وسيساهم بما يصل الى 17 مليار دولار من الناتج المحلي. واوضح الناصر ان المشروع الذي يقام في منطقة رأس الخير، سيشمل صناعة تجهيزات متعلقة بالنفط. وقال "سنبني الناقلات، سبنبي المنصات... سنبني المحركات ونحافظ عليها في المملكة". واوضح ان المشروع سيكون "عاملا بشكل كامل بحلول سنة 2021".

وبحسب الناصر، تنوي "ارامكو" المساهمة في اطلاق اكثر من مئتي شركة صغيرة ومتوسطة الحجم في اطار مركز للمبادرات تابع لها، وذلك في سياق "رؤية السعودية 2030" التي اعلنها ولي ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان في 25 نيسان/ابريل. وردا على سؤال عن طرح جزء من الشركة للاكتتاب العام، والمدرج ايضا ضمن الخطة، قال الناصر ان الشركة لا تزال "تقوم بكثير من التحليلات".

واوضح ان العديد من الخبراء في الشركة يبحثون القضايا التجارية والقانونية، اضافة الى "النسبة التي ستطرح للبيع ومكان طرحها". واشار الى ان ما سيتوصل اليه المختصون في الشركة سيرفع الى المجلس الاعلى المشرف عليها الذي يرأسه الامير محمد بن سلمان. وشدد الناصر على ان طرح اسهم شركة بحجم "ارامكو"، "يتطلب وقتا".

تحديات امام الاصلاحات الاقتصادية

وفي احد المعاهد التقنية في الرياض، ينكب طلاب سعوديون على خوض امتحاناتهم املا في النجاح والتخرج مزودين مهارات تؤهلهم لسوق العمل وكسب مدخول، وتساعد بلادهم في تطوير يد عاملة متنوعة الخبرة. ويوفر المعهد العالي للصناعة البلاستيكية الواقع في احدى المناطق الصناعية بالعاصمة، لطلابه مهارات صناعة الاكياس والانابيب والزجاجات، وهي مهارات سيطبقونها فور انتقالهم الى الحياة العملية.

ويشكل الحد من البطالة احدى ركائز - ومن أبرز تحديات - "رؤية السعودية 2030"، الخطة الاقتصادية التي اعلنتها المملكة في نيسان/ابريل لتنويع مصادر الدخل وتقليص الاعتماد على النفط وتعزيز دور القطاع الخاص. وتسعى الخطة ليس فقط لتعزيز القوة العاملة السعودية، بل تنويع مهاراتها بما يساهم في تنويع النشاط الاقتصادي وقطاعاته، للحد من الاعتماد المفرط على الايرادات النفطية. ومن ضمن "رؤية السعودية 2030"، اطلقت السلطات "برنامج التحول الوطني 2020" الذي يشمل خطوات تنفيذية على مدى السنوات الخمس المقبلة، منها تقليص البطالة من 11,6 بالمئة الى تسعة بالمئة.

ويعد المجتمع السعودي شابا الى حد كبير، اذ ان اكثر من خمسين بالمئة من السعوديين هم دون سن الخامسة والعشرين. وحذر صندوق النقد الدولي العام الماضي من ارتفاع نسبة البطالة وتزايدها وسط الشباب، داعيا الى مواجهة هذا الامر بشكل طارىء. ويرى خبراء ان القيام بذلك يمثل تحديا كبيرا، لاسيما وان جزءا كبيرا من المجتمع السعودي اعتاد لاعوام طويلة على نظام الرعاية الاجتماعية والدعم الحكومي، ما حد من حوافز العمل بالنسبة الى كثيرين.

ويقول هادي الحربي (18 عاما) الذي عمل سابقا كحارس امني في مكة، انه مستعد للعمل مجددا بشرط ان تكون الوظيفة "مريحة" وتوفر اجرا جيدا، بحسب فرانس برس.

وبحسب تقرير لشركة "جدوى للاستثمار"، يعمل في السعودية اكثر من 6,5 ملايين اجنبي، علما ان عدد المواطنين في المملكة يناهز 21 مليونا. وتتوزع العمالة الاجنبية في مجالات متنوعة، من المناصب الادارية العليا الى المهام الصغيرة كتنظيف الشوارع او الخدمة في المطاعم والمنازل، وهي وظائف عادة ما يحجم السعوديون عن القيام بها. ويبلغ عدد السعوديين العاملين في القطاع الخاص نصف عددهم في القطاع العام حيث امتيازاتهم افضل، كساعات عمل اقل واجازات اطول. الا ان الحكومة تعتزم بحلول سنة 2020، تقليص نسبة أجور القطاع العام من الموازنة، من 45 بالمئة حاليا الى اربعين بالمئة.

كما يسعى برنامج التحول لتعزيز دور النساء في القوة العاملة. وبحسب "جدوى للاستثمار"، سجلت نسبة البطالة لدى النساء العام الماضي 33,8 بالمئة. وترتفع هذه النسبة لدى النساء في العقد الثالث من العمر. وتقول سليمة شاكر المالكي (30 عاما)، وهي ربة منزل لم يسبق لها العمل، "في ثقافتنا من الصعب الذهاب الى العمل (...) لم يكن الامر مسموحا".

وتعرب المالكي، وهي ام لثلاثة اولاد، عن املها في ان يساهم برنامج التحول في نيلها وظيفة مناسبة "لاخرج من روتين الحياة واحقق احلامي".

ويعد المعهد العالي للصناعة البلاستيكية من الاكثر تطورا بين زهاء 240 معهد ومدرسة تتبع للمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني. وتؤكد المؤسسة الحكومية ان مقاربتها فريدة، اذ ان التعاون بين المعاهد والشركات يتيح للطلاب الحصول على تدريب ووظيفة في الوقت نفسه.

ويقول المدير التنفيذي للمعهد خالد الغفيلي ان المنشأة تتماشى مع اهداف خطة الاصلاحات الاقتصادية "منذ اليوم الاول لبدء تدريب" الطلاب.

ويوضح ان النشاط يوميا يبدأ ببعض التمارين الرياضية والتحقق من زي الطلاب، معتبرا ان ذلك يعزز "الانضباط" واخلاقيات العمل. ويختتم الطلاب برنامجهم في المعهد باختبارات قبل الانتقال الى العمل. ويرى عبد الله العامري (23 عاما) الذي سينال شهادته هذه السنة ان العديد من طلاب المعهد يطمحون لتأسيس شركات خاصة بهم "وهكذا يوفرون فرص عمل للاخرين".

وخرّج المعهد اكثر من الف طالب منذ تأسيسه عام 2007، سبعون بالمئة منهم يعملون في القطاع الخاص. ويعرب الغفيلي عن رضاه عن نتائج المعهد، سيما وان الصناعات البلاستيكية في المملكة اعتمدت لفترة طويلة على العمالة الاجنبية.

الا انه يرى ان النجاح الاضافي سيكون عبر تطور القطاع من التركيز على السلع الاستهلاكية الى انتاج "اكثر اهمية"، ما سيزيد فرص العمل. وحذر الغفيلي من ان "هذه المرحلة الانتقالية لن تكون سهلة".

اضف تعليق