q

كانت احدى المسائل التي تشكل اهمية بالغة على وجه الخصوص في الاقتصاد الكلي طوال الخمسين عاما الماضية هي العلاقة بين البطالة والتضخم، فقد تحول التفكير الاقتصادي بصورة مثيرة بشأن تلك العلاقة وبطريقة كان لها تأثير جوهري على صناعة السياسة، اي على كل من فرض اسعار الفائدة وقرارات الحكومة بخصوص فرض الضرائب والانفاق.

في نهاية الخمسينيات نشر الاقتصادي "ايه دبليو فيليبس"PHILLIPS دراسة بحثت في التضخم والبطالة في امريكا طول القرن الماضي، وقد اكتشف ان هناك علاقة جلية بين الاجور والوظائف، عندما يهبط معدل البطالة تتجه الاجور نحو الارتفاع بشكل اكثر حده والعكس بالعكس، وثبت ايضاً نفس الشيء لو الاسعار- وليس الاجور – تم مقارنتها بالبطالة، والعلاقة العكسية بين التضخم ومعدل البطالة اشتهرت بسرعة فائقة بأسم "منحنى فيليبس" PHILLIPS CURVE.

يصل منحنى فيليبس الى نتيجة مفادها ان الحكومات في كل انحاء العالم تستطيع تحديد "الطرف البديل" الذي ترغب فيه من بين الطرفين وهما التضخم والبطالة، على سبيل المثال اذا اعتقدت الحكومة ان البطالة مرتفعة اكثر من اللازم فيمكنها ان تعمل على خفضها بتنفيذ سياسة متوسعة (الاستقطاعات الضريبية او زيادة الانفاق او خفض اسعار الفائدة) ولكن على حساب ايجاد زياة في التضخم، لكن اذا اعتقدت الحكومة ان التضخم مرتفع اكثر من اللازم فأنها تستطيع ان ترفع الضرائب وتخفض الانفاق او ترفع اسعار الفائدة لخفض الطلب الذي يعمل على خفض التضخم، وفي هذه المره يتم ذلك على حساب البطالة، بمعنى آخر من وجه نظر فيليبس، لن يكون هناك "غذاء مجاني" فلن يهبط التضخم ولا البطالة (او ربما يرتفعان في نفس الوقت).

كان ذلك يعني ان هناك مستوى من البطالة يستحيل من خلاله ان يهبط دون ان يؤدي الى ارتفاع بالاسعار وهذا المستوى اطلق عليه اصطلاح "المعدل الطبيعي للبطالة"، عند المستوى الطبيعي نستطيع ان نقول ان لدينا عمالة كاملة ولا يزال هناك من لا يعملون، لكن العمل على زيادة العمالة (او زيادة خفض البطالة) بما هو اكثر من المعدل الطبيعي قد يؤدي الى مشكلات اقتصادية اخرى كألتضخم.

الطريقة الاخرى للتحدث عن المعدل الطبيعي للبطالة هي ان نرجع للانواع المختلفة من البطالة والتي تتمثل بالبطالة الهيكلية والبطالة الدورية والبطالة التقليدية والاحتكاكية والموسمية، والمعدل الطبيعي هو مستوى البطالة الذي يوجد حتى لو كان الاقتصاد ينمو كما ينبغي له ان ينمو، بمعنى اخر لا يرجع اساساً الى نقص الطلب، لذلك يمكن اعتبار المعدل الطبيعي هو الاربعة انواع الاخرى من البطالة (الهيكلية والتقليدية والاحتكاكية والموسمية) بغض النظر عن البطالة الدورية.

قانون اوكون

في حالة وجود البطالة الدورية يرتفع عدد الذين لا يشغلون اية وظيفة عندما يسير الاقتصا بصورة ضعيفة، ويهبط ذلك العدد عندما يسير بصورة جيدة، هذا مايسمى بقانون اوكون OKUNS-LAW بعد ان كتب الاقتصادي ارثر اوكون في بداية الستينيات عن العلاقة بين النمو الاقتصادي ومعدل البطالة في الولايات المتحدة، اوضح اوكون ان الارتفاع بنسبة 3% في النشاط الاقتصادي لابد ان يلازمه هبوط بنسبة 1% في معدل البطالة، والعكس بالعكس.

ليت الامر بهذه البساطة! فمن الناحية العملية، يمكن ان تختلف طريقة تحرك البطالة عندما بصبح الاقتصاد قوياً او عندما يصبح ضعيفاً، هناك اختلافات بين الدول في طريقة استجابة البطالة نحو النشاط الاقتصادي، فمثلاً دول كامريكا واسبانيا كانت تعاني من حالات ارتفاع هائلة في معدلات البطالة التي ترتبط بالتقلص الاقتصادي اثناء فترة الركود الاخيرة، من ناحية اخرى شهدت المانيا واليابان زيادات طفيفة في معدلات البطالة بهما مضاهاة بمدى حدة هبوط النشاط الاقتصادي، ربما تعود تلك الاختلافات الى عوامل عدة بما فيها مايسمى "بالشروط الصارمة لسوق العمل"، (بدعم الاجور وساعات العمل ربما تجبر النقابات العمالية للشركات على خفض حجم القوى العاملة بها بهدف توفير المال اثناء فترة الركود)، والبديهية التي تقول ان هناك قطاعات معينه تعد اكثر توسعاً في سوق العمل من قطاعات اخرى، تأمل مثلاً حجم قطاع البنك في اسبانيا الذي تفوق عليه سوق الاسكان الاكثر ضعفاً.

اذاً لقد بينا الطريقة التي يتفاعل بها كل من النمو الاقتصادي والبطالة يمكن ان يتباين كثيراً من دولة الى اخرى، لكن كيف تتباين التغيرات التي تطرأ على البطالة – وعلى العمالة كوجه اخر لعملة واحد- مع النمو الاقتصادي بصورة واضحة وبمرور الوقت (في نفس الدولة)؟، خلال فترة الركود الاقتصادي التي اعقبت ازمة الائتمان في 2008-2009 لم تهبط العمالة في المملكة المتحدة على اي مستوى من الحدة كما يمكن ان يصور لنا التأريخ في الماضي، ففي حين هبط اجمالي الناتج المحلي من القمة الى الحضيض لمستوى لم يصل اليه اي كساد يعقب الحرب، كان هبوط العمالة اقل مما كان عليه خلال فترات الكساد في بداية التسعينيات والثمانينيات والسبعينيات، وقد قال هاري ترومان يتحقق الركود الاقتصادي عندما يفقد جارك عمله ويصبح الامر كساداً عندما تفقد انت عملك.

لماذا كانت الحالة هكذا؟ ربما كان الناس لديهم النية للعمل مقابل ادنى الاجور او للعمل بدوام جزئي وهذا كان يقلل حسابات الاجور للشركات بما يشجع تلك الشركات على الاحتفاظ بالعاملين بها اثناء فترة الركود، اضف الى ذلك ان الحكومة واصلت عملية التوظيف او التعاقد خلال فترة التقلص الاقتصادي للتعويض عن شيء من الهبوط المرتبط بفترة الهبوط في وظائف القطاع الخاص، وربما ايضاً تكون التغيرات التي طرأت على السياسة الاقتصادية (مثل اسعار الفائدة التي وصلت الى ادنى مستوى لها) قد ساعدت الشركات على تجاوز الركود بصورة افضل .

كما بين قانون اوكون، تستطيع الحكومات التعامل مع البطالة الدورية بتحفيز النشاط في الاقتصاد وهو مايسمى سياسات "ادارة الطلب"، من ناحية اخرى فأن السياسات التي تهدف الى محاولة خفض المعدل الطبيعي للبطالة بحل المشكلات الكامنة بهيكل سوق العمالة تسمى "سياسات الاعداد" لأنها تتعامل مع ارض العمالة، الحد من قدرة الاتحاد او النقابة، اتاحة تدريبات افضل، واعادة التفكير في بدلات البطالة، كلها انواع من سياسات الاعداد التي يمكن ان تساعد على خفض المعدل الطبيعي للبطالة.

لماذا توقف العمل بمنحنى فيليبس؟

يبدو فعلاً منحنى فيليبس وصفاً جيداً لطريقة عمل الاقتصاديات حتى نهاية الستينيات من القرن المااضي لكن الامور تغيرت بصورة مثيرة خلال العقدين التاليين، فالمزج بين ارتفاع البطالة والتضخم في العديد من الاقتصاديات خلال السبعينيات والثمانينيات (خاصةً في المملكة المتحدة والولايات المتحدة) كان تماماً في الاتجاه المضاد لما اكد عليه فيليبس انه لابد ان يحدث.

ما الخطأ الذي حدث؟ لماذا – بعد مرور قرن من الزمن – توقف العمل في منحنى فيليبس؟ اكتشف اثنان من الاقتصاديين النقديين (الماليين) وهما ميلتون فريدمان وادموند فيلبس عيب منحنى فيليبس حتى قبل ان يتوقف العمل به.

بينما كان منحنى فيليبس يعمل بصورة جيدة على مدى قرن كامل، قال كل من فريدمان وادموند انه يمكن الاعتماد عليه لفترات زمنية قصيرة فقط، تخيل ان احدى الحكومات تهدف الى خفض البطالة بعرض سياسات متوسعة، فهذا سيؤدي الى نمو اقتصادي اكثر قوة، وهذا بدوره سيؤدي الى رفع اسعار السلع والخدمات في الاقتصاد، ومع اجور الساعة التي لا تتغير تشعر الشركات بغاية السرور عند التعاقد مع المزيد من العمال لأنها ستحصل الان على المزيد من الاموال من بيع السلع التي ينتجها العاملون بها، وبالتالي ستزيد الارباح لذلك فعلى المدى القصير تهبط البطالة ويصبح لدينا تضخم مرتفع تماماً كما يفترض فيليبس.

لكن العمال سيدركون في نهاية الامر انهم يخدعون فأجر الساعة لم يرتفع، لكن السلع والخدمات التي يشترونها ارتفعت اسعارها بكل تأكيد، لذلك فأنهم بعد فترة وجيزة سيطلبون اجوراً اعلى ولكننا نعلم ان الشركات- عندما ترفع الاجور – تسعى الى خفض القوى العاملة بها، ومن ثم تعود البطالة للزيادة مرة اخرى الى حيث نقطة البداية.

بعد ذلك بفترة طويلة زعم فريدمان وادموند ان الشيء الوحيد الذي يمكن ان تحققه الحكومة بتحفيز الاقتصاد هو ارتفاع في التضخم دون تغيير في عدد العمال، فمن المستحيل ان نجعل البطالة ادنى من معدلها الطبيعي لان الحكومة لابد ان تواصل انعاش الاقتصاد دورة بعد دورة من الدعم فتخفض البطالة في فترة قصيرة فقط مايؤدي الى معدل اعلى من التضخم، لهذا السبب اختفت السياسات المتوسعة في السبعينيات والثمانينات في خفض البطالة، لكنها ادت الى تفشي التضخم.

وصف فريدمان وادموند المعدل الطبيعي للبطالة بطريقة مختلفة عن طريقة فيليبس لذلك فقد اطلقا على هذا المعدل اصطلاح "معدل التضخم فير المتسرع للبطالة".

يبدو هذا الاصطلاح معقداً لكنه في حقيقة الامر ليس كذلك، بل انه المعدل الاساسي للبطالة الذي يمكن ايجاده في الاقتصاد دون ايجاد معدلات مرتفعة (وهذه هي نقطة عدم التسارع) من التضخم، اذا ظل التضخم ثابتاً لا يتغير فدائماً مايكون هناك اتجاه لعودة البطالة الى هذا المستوى.

النتيجة الرئيسية التي نصل اليها من عمل فريدمان وادموند هي ان الحكومة لا تستطيع ان تنتقل مابين البطالة والتضخم على المدى البعيد، فالسياسات المتوسعة تؤدي الى الهبوط في البطالة لدون المعدل الطبيعي فقط، حتى ادرك العمال انهم قد تم خداعهم بهبوط الاجور الحقيقية (اسعار مرتعفة داخل الاسواق مع عدم وجود اي تغيير للتعويض عن الاجور الرسمية).

هذه هي الناحية النظرية، لكن كيف كان يتحرك كل من البطالة والتضخم بالفعل طوال العقدين الماضيين؟ اذا اخذنا المملكة المتحدة كمثال اذا ما ارتفعت البطالة وهبطت في الدورة الاقتصادية، اصبح التضخم اقل تغيراً واقل بوجه عام على مدى 15-20 سنة مضت، تزامن ذلك مع استهداف بنك انكلترا للتضخم منذ عام 1993م وما بعدها (وقد فعل ذلك كمؤسسة مستقلة منذ عام 1997م)، بمعنى آخر كان لابد من الاحتفاظ بالتضخم في حالة استقرار مهما حدث للبطالة.

يتضح مما تقدم على الحكومة اتباع سياسات صحيحة ومجربة واثبتت وصولها الى نتائج ناجعة، من خلال الاستفادة من تجارب الدول الاخرى، وان كانت الحكومة لا تستطيع ان تصل الى توازن حقيقي وواقعي بين البطالة والتضخم فعليها ان لا تقبل ببساطة ارتفاع التضخم عوضا عن هبوط البطالة، بل تسعى الى المحافظة على مستوى طبيبعي من التضخم وتعمل لتقليص البطالة ووضعها ضمن المدى المسموح لخلق حالة من التوازن تضمن على الاقل استقرارها الاقتصادي.

اضف تعليق