q

"من كتم سرّه كانت الخِيرة بيده"، الكتمان على معلومات وأسرار خاصة بالافراد والمؤسسات والدولة بشكل عام، لا يعبر دائماً عن اجراءات حكومية صارمة، بقدر ما تمثل ثقافة اجتماعية في عديد الشعوب المتقدمة، فالمعلومة السلبية منها والايجابية التي ترشح من هذا البلد أو ذاك، تمثل ثغرة أمنية لصالح المتربصين الدوائر، ليس في مجال السياسة والحرب وحسب، بل فيما يتعلق بالتطورات العلمية وفرص التطور الاقتصادي والتجاري. فالدول الطامحة للتطور، اضافة الى رصيدها العلمي، فانها تتسلح بثقافة الكتمان على اسرارها في ساحة المنافسة مع القوى الاخرى في العالم، بغض النظر عن أن تكون هذه الاسرار، عبارة عن حقائق سيئة، أو معلومات ثمينة.

أما في العراق، فان للبعض اجتهادات خاصة في هذا المجال، فالمعلومة لا صلة لها بعجلة التطور الاقتصادي او السياسي، إنما ينظر اليها على أنها سلاح يهدد الفاسدين والمتلاعبين بالمال العام وبمصائر الناس، والهدف هو الإصلاح ثم التغيير او تقويم الاوضاع نحو الافضل، لذا نجد أن المعلومة عن هذا السياسي وتلك الجماعة او هذه الوزارة وتلك المؤسسة، باتت تشكل مادة إعلامية دسمة لمعظم وسائل الاعلام، ومن ثم جاء التطور في النشر بفضل تقنية الاتصال، وباتت المعلومة في متناول أيدي الناس، صغاراً وكباراً. وكلما كانت الإثارة اكبر، كان عدد المتابعين اكثر والانتشار أوسع.

وإن تحدث البعض عن ضرورة توفير ميادين حرة لنشر المعلومات الخاصة بالمفسدين؛ هويتهم، وانتماءاتهم، وحساباتهم في الخارج وغيرها كثير من إفرازات الفساد المقززة، فان ثمة من يتسائل عن جدوى نشر هذه الافرازات في اوساط المجتمع، وربما على نطاق العالم، كون المعلومة المنشورة اليوم لن تقف امامها حدود.

في الايام الاولى من انطلاق وسائل الاعلام المختلفة في العراق، بعد 2003، ربما تصور البعض أن لسان الاعلام وما يحمله من حقائق وارقام تكشف أخطاء الساسة، بامكانه كبح جماح الفساد وتقويم الانحراف والتأثير على الاداء السياسي في الدولة، بيد أن الايام أثبتت عكس ذلك، فالسياسي هو الذي يوجه الاعلام والرأي العام، وهو الذي يغذي قنوات النشر بتفاصيل الفضائح عن هذا وذاك في حرب مفتوحة على ساحة التنافس المحموم على السلطة.

فما هي النتائج...؟، كما في الحروب الاخرى؛ نجد الشعب العراقي أول الخاسرين في هذه حرب الاستنزاف المعلوماتي، فالحديث عن اختلاسات بالمليارات، لم يغير حاله المعيشي الى الأحسن، وفضح اسماء المفسدين، لم يردع آخرين عن اقتراف جرائم مشابهة، ولم يعالج مرض الفساد بشكل جذري. بل العكس من ذلك تماماً، فالذي حصل بعد حوالي ثلاثة عشر سنة من التغيير، هو حالة استمراء لكل ما يتعلق بالاستحواذ على المال العام، حتى بات الناس يرحبون بحصول الساسة والمتنفذين على الرواتب والمخصصات العالية، مقابل إنجاز شيء في ميدان الخدمات والانتاج والعمل في مجالات مختلفة.

وهذا تحديداً ما تنتبه اليه بلاد عديدة في العالم ولا تسمح بشيوع الحالة السلبية في اوساط المجتمع، بل تسعى الجهات المعنية الى إشاعة الروح الايجابية بما فيها من مفردات الأمل والثقة بالنفس وغيرها. وهذا ما نلاحظه من النظرة الدونية في عديد الدول الى صحافة الإثارة والتشهير، لانها تتميز عن سائر وسائل الاعلام بابتعادها عن مشاريع التوعية والتثقيف وصنع الرأي العام، وفي بعض البلاد أجبرت الجهات المعنية هكذا صحف على تغيير نهجها وطريقة خطابها او مغادرة الساحة، ليس بصورة قمعية، إنما وفق ضوابط ومعايير قائمة على قيم اجتماعية ومبادئ عامة، عندما لاحظت انتشار اخبار جرائم القتل والاغتصاب والاحتيال تنشر بشكل يومي، ربما تتحول الى حالة طبيعية تترك أثرها المباشر الى افراد المجتمع لاسيما الشباب والناشئة الذين يجدون أن ارتكاب الجرائم ليس بالأمر الصعب.

وبما أن وسائل الاعلام اليوم، بدأت تنحني – بعض الشيء- أمام عاصفة الاتصالات السريعة والمجانية عبر العالم، فان توجيه كبح لجام النشر غير المنضبط، بات أمراً غاية في الصعوبة، فاذا كان في الماضي، يتم التعامل مع صحيفة او مجلة، ثم اذاعة ومن بعدها القناة الفضائية، فان اليوم، التعامل مع الملايين من المستفيدين من برامج التواصل الاجتماعي التي تقدمها لنا أيدي خلف الستار، فمن كان يتوقع ظهور برامج مثل "واتساب" أو "فايبر" او "تلغرام" وغيرها...؟.

إذن؛ من الجدير بالمعنيين تضمين ثقافة النشر، في مشروع البناء الثقافي العام، لاسيما ونحن نتميز عن سائر الشعوب والأمم برصيد ثقافي ومعرفي هائل من شأنه تقويم الحالة وخلق نمط جديد ومثالي من التعامل مع مسألة النشر، ربما يجذب انتباه العالم، وبين أيدينا احاديث مروية عن الأئمة المعصومين، عليهم السلام، تؤكد لنا أهمية الاتزان واللياقة في النشر، أكثرها شهرة: "لا كل ما يعرف يقال". وفي نهج البلاغة، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: "من كتم سرّه كانت الخِيرة بيده".

إن كلام الامام علي، عليه السلام، الذي يصيب كبد الحقيقة، يلهمنا درساً في الحفاظ على السيادة والسمعة والمكانة بين شعوب وبلاد العالم. هب أن هنالك من يسرق او يقتل او يرتكب مختلف اشكال الموبقات والجرائم، فهل هذا يبرر "إشاعة الفاحشة"...؟ وهل الإشاعة علاجاً ناجعاً لهذه الجرائم التي تبدو وكأنها مرضاً نفسياً عضال يعشعش في نفوس البعض؟.

لقد بلغ أمر النشر الفوضوي في العراق الى حدٍ أن لم يبق شيء عن هذا البلد إلا وتتداوله مواقع التواصل الاجتماعي وبرامج الاتصال على الهاتف المحمول، فبعد الاموال والثروات وحتى سمعة وكرامة الاشخاص، باتت سمعة البلد امام العالم في خطر، وهذا يؤدي في نهاية المطاف الى نتيجة كارثية خطيرة على الانسان العراقي، لان كل ما ينشر عن بلده، يدعو الى الخيبة واليأس، فما الذي يدفعه لأن يضحي من اجله أو يعمل ويبذل جهده العضلي والذهني؟ .

اضف تعليق