q

جرت في الاسابيع القليلة الماضية نقاشات حول السياسة المالية البريطانية مستوحيةً من اجواء الفقر السائدة في الثلاثينات التي وصفها الكاتب البريطاني جورج اوريل في كتابه (الطريق الى ويغن بير) (1). في الثالث من ديسمبر الحالي أعلن وزير المالية البريطاني جورج اوسبورن في بيانه لفصل الخريف، عن خطط لتحويل العجز في الموازنة البريطانية البالغ 108 بليون باوند (169 بليون دولار) الى فائض بمقدار 23 بليون باوند بحلول عام 2020. وبما ان الحكومة لا تريد زيادة الضرائب لتمويل هذه الخطط، فان توقعات الإنفاق العام تشير الى انه سيهبط من 41% من الناتج المحلي الاجمالي الحالي (GDP) الى 35% في نهاية العقد الحالي.

هذه النقاشات اثارت اتهامات بان الحكومة تريد إعادة البلاد الى ظروف الفقر السائدة في اواخر الثلاثينات من القرن الماضي. مكتب مراقبة الميزانية (OBR) اوضح بان خطط الوزير البريطاني ستُجبر الإنفاق العام للانحدار الى ما دون المستويات التي اعقبت الحرب في الأعوام 1957-1958 و1999-2000 اي الأدنى مستوى في ثمانين عاما.

احد صحفيي الـ بي بي سي علّق ساخراً "انتم تعودون الى ويغن بير". حزب العمال المعارض وجد من هذا الموضوع مادة انتخابية جيدة، ففي السابع عشر من ديسمبر اتهم الزعيم العمالي (ايد ميليباند) رئيس الوزراء بانه يريد إعادة البلاد الى "ايام الثلاثينات".

ان مضامين تلك البيانات و رسالة حزب العمال هي انها تريد ارسال رسالة الى الناخب بان الحكومة لا تريد فقط تقليل الانفاق العام الى المستوى السائد في 1930s، وانما تريد ايضا العودة الى مستوى الخدمات في ذلك الوقت والى البؤس الذي وصفه اوريل في كتابه.

صورة مغايرة

 لكن هذه التصريحات تركت المؤرخين البريطانيين في حيرة من امرهم. هؤلاء المؤرخون يثقون كثيراً بكتاب رصين وذو مصداقية عالية حول الآداء الاقتصادي البريطاني في العقود الماضية وهو كتاب "ملخّص في الاحصاءات التاريخية البريطانية "للكاتبين Brian Mitchell & Phyllis Deane، الذي يكشف عن صورة مختلفة جدا للثلاثينات.

في عام 1939، وهي السنة التي شهدت أعلى نسبة للانفاق، استهلكت الحكومة فقط 30% من الدخل القومي. وتقريبا نصف ذلك، اي 14% من المخرجات صُرفت لخدمة الدين العام خلال الحرب العالمية الاولى، حيث اُنفق على ادارة الامبراطورية البريطانية ودفع نفقاتها العسكرية وخدماتها البريدية. ذلك ترك فقط 16% من الدخل القومي في عام 1939 لجميع الاشياء الاخرى – الصحة، التعليم، الضمان الاجتماعي والشرطة والحكومة المحلية والبنية التحتية وغيرها – مقارنة بـ 30% في خطط اوسبورن لعام 2020.

 باختصار، القصة هي ليست ان بريطانيا ستنفق بنفس مستوى انفاق الثلاثينات وانما في عام 2020 ستنفق مرتين بقدر ما اُنفق من حصة الدخل القومي على الخدمات العامة و الرفاهية الاجتماعية حين كتب جورج اوريل كتابه.

العديد من المؤرخين يعتقدون ان اعوام الثلاثينات يتذكرها الناس بطريقة خاطئة كفترة سيئة للاقتصاد البريطاني. وعلى الرغم من ان البطالة والفقر كانتا بنسبة عالية في بداية الثلاثينات- والتي كانت اساسا بسبب سياسة تبنّي سعر صرف ثابت عالي القيمة مرتبط بالذهب في العشرينات والذي اُلغي في عام 1931، لكن البطالة هبطت الى اكثر من نصف في الفترة المتبقية من ذلك العقد. الاقتصاد نما باكثر من 4.5% سنويا بين عامي 1932 و 1939 – وهي أسرع نسبة في عدة عقود، والمخرجات لكل فرد ارتفعت من 79% من مستوى المخرجات لكل امريكي عام 1929 الى 97% في عام 1937، الأمر الذي أوقف 50 سنة من التراجع الاقتصادي النسبي فقط في غضون ثمان سنوات. وباستثناء المناطق العالية البطالة التي زارها اوريل عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، كان العامل البريطاني العادي افضل حالا من اي وقت مضى.

واذا اردنا التمعّن الدقيق في ادّعاء الوزير البريطاني وما يحمله من مبالغة نرى ان الخطط المُعلن عنها في الواقع تقود لتخفيض في الانفاق العام مساوي لمستويات الانفاق التي حصلت في عامي 2002- 2003 بالقيمة الحقيقية، او لإنفاق عام 2001- 2002 بالقيمة الحقيقية لكل فرد. الحكومة ربما تعود مرة اخرى لتصبح قادرة حتماً على توفير رفاهية الدولة في عام 2020. ذلك لا يعني انكار ان بعض الخفض في الانفاق سيكون مؤذيا: مثلا، اذا استمرت الحماية لميزانيات الصحة والتعليم والمساعدات الخارجية، فان الانفاق على الاقسام الاخرى ربما يحتاج للتخفيض الى النصف. لكن هناك اهدافا واقعية ومتدرجة للقطع مثل خفض مدفوعات الدولة للمتقاعدين الأثرياء سوف يحمي تلك الاقسام من اي نتائج كارثية. وبالرغم من ان خطط مستر اوسبورن قد تبدو قاسية، لكن من المؤكد ان العودة الى ويغن بير سوف لن تحصل.

Public Spending In Britain, The road to nowhere near Wigan Pier, The Economist Dec 20th 2014.

 

.........................................
الهوامش
(1) كتاب "الطريق الى ويغن بير" The Road To Wigan Pier للكاتب البريطاني جورج اورويل، صدر عام 1937.النصف الاول من الكتاب يضم تحقيقات سوسيولوجية عن الظروف المعيشية للعمال البريطانيين قبل الحرب العالمية الاولى، اما النصف الثاني من الكتاب يتحدث مطولا عن تربية الكاتب ضمن اوساط الطبقة الوسطى. اورويل أعلن بوضوح انه يفضل الاشتراكية، لكنه وجد من الضروري الاشارة للاسباب التي تدفع الناس عمليا لمعارضة الاشتراكية رغم منفعتهم منها.
..........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق