q

د. هيثم الحلي الحسيني

 

ستنصرف هذه الدراسة، الى التفصيل في كينونة مجموعات المصالح الخاصة ونطاقها، والتي جرى تضمينها، في تصنيف مكونات المجتمع المدني C.S، ومنظماته غير الحكومية NGOs، وذلك لغرض تبيان أهدافها ومهامها ومعوقات العمل فيها، وإرثها التأريخي المجتمعي والسياسي، ضمن الساحة العراقية نموذجا.

فالمجتمع المدني يستبطن في مفهومه الأكاديمي، حالة من التماسك والتعاون والتنسيق، الذي يعبّر عنه بالعقد الإجتماعي، في متبنيات آليات المجتمع المدني وبنيوته، لكن الفكر المجتمعي الإسلامي، يشير لصيغ أخرى من التعاون والتنسيق البيني، حيث يشترط التكامل والتكافل، بين وحدات البناء في المجتمع المدني، والتي أشير الى أنها في متبنياته، تبدأ من الفرد والأسرة أو مجموعة الأفراد، بصفتها الوحدة المجتمعية الأساس، ثم المجموعات ومجاميعها، بضمنها النشاط الإقتصادي الخاص، وإنتهاءً بالدولة نفسها، ضمن مؤسساتها ذات الطبيعة الخدمية المجتمعية.

وهذا هو الأساس النظري، أو الإطار العام، في الرؤية المجتمعية الإسلامية، التي يجري الإستدلال لحجياتها في الأدلة العقلية والنقلية، فيفترض حالة من المسؤولية المتقابلة، بين كافة أطراف المجتمع، ضمن حزمة من أربع مجاميع، وكل مجموعة منها تحمل مسؤولية ومهام مجتمعية، إزاء سائر الأطراف الأخرى، وبضمنها إزاء نفسها أيضا، فتبين البنية التحتية لفكرة المجتمع المدني.

وعليه فإن الضلع الرئيس في أطراف المجتمع المدني، وفق رؤى الفكر الإسلامي، يتشكل من "المجموعات" المجتمعية، وبالتالي مجموعها، والذي له اعتباره وقيمته، وله أحكامه وقوانينه، ويتحمل مسؤولياته تجاه الأضلاع الأخرى، بمعنى تجاه الأفراد، وتجاه المجموعات الأخرى وبضمنها تجاه نفسها، أو تجاه منتسبيها، وتجاه الجميع والمجموع، وتجاه الدولة.

فالجماعة تكون كهيئة اجتماعية أو كمجموعة، وهي منظمة المجتمع المدني، أو المؤسسة في المتبنيات الأكاديمية المجتمعية، لأن هذه المجموعات، هي التي تشكل مؤسسات المجتمع المدني، وهي التي تنهض أساساً بالمهام الرئيسة لهذه المنظومة المجتمعية، فالفكر المجتمعي الإسلامي، ينظر الى هذه المجموعات، وفق رؤية شمولية جامعة، ويحملها مسؤولياتها ومهامها الرئيسة، تجاه أضلاع المجتمع المدني الأخرى.

إن الأهداف أو المهام، التي تضطلع بها مؤسسات المجتمع المدني، وفق الرؤية الإسلامية، هي بناء المجتمع فكرياً وثقافياً وعلمياً، بمعنى عقديا وسلوكيا، ثم البناء المادي للمجتمع، الذي يشمل المساهمة بتوفير الخدمات، والبنى التحتية للمجتمع، والتي بالأساس تعد من مسؤولية الدولة، لكن الرؤية الإسلامية المجتمعية، ترى أن مؤسسات المجتمع المدني، شريكة في هذه المسؤولية، وبذا تمنع "إحتكار" الدولة لها، وأخيراً مهمة تشكيل الموازن الاستراتيجي لقدرة الدولة، أو السلطة الموازية للحكومة فيها، فيقابلها في الهندسة السياسية، مفهوم جماعات الضغط.

فسائر ضلع "المجموعات" المجتمعية، يتحمل هذه المهام الثلاثة، إزاء الأضلاع المجتمعية الأخرى، ومن بينها مسؤولياتها إزاء المجموعات الأخرى، وإزاء نفسها أيضا، فهي المكون المجتمعي حصرا، التي تحمل عنوان "مؤسسات المجتمع المدني"، والتي لها روح وإعتبار، يميّز بعضها عن بعض.

وبذا يندرج تحت عنوانها، كل من المجموعات "الخاصة" والمجموعات "العامة"، وكذا سائر التفريعات الأخرى لمكونات المجتمع المدني، بما في ذلك وسائل الإعلام غير الحكومي، والنشاط الخيري الخاص، وهيئات المجتمع العلمي، وواجهات المؤسسة الدينية، كما يضاف لها المجموعات الأخرى وفق الرؤية الإسلامية المجتمعية، كالمجالس الأسرية، أو هيئات الشرائح التي يجمعها مشتركات فكرية ومتبنيات عقدية، إضافة الى النشاط الإقتصادي الخاص.

وعليه فإن هذه المهام الواسعة، ضمن متبنيات وآليات المجتمع المدني، تتوزع بين المجموعات الخاصة، إضافة الى المجموعات العامة، وكذا التفريعات الأخرى للمجتمع المدني، التي تخرج من نطاق وتحديدات المجموعتين، الخاصة والعامة، وبذلك يصعب تحديد مهام ومسؤوليات بعينها، ليجري إلحاقها بمكونات المجتمع المدني تعميما، بل إن المهام والأهداف، يجري التعريف بها، من خلال تصنيف هذه المكونات، وفق مرجعيات مهامها ومسؤولياتها.

إن المجموعات المجتمعية "الخاصة"، وفق المتبنيات الأكاديمية للمجتمع المدني، هي المنظمات المهنية، كالنقابات والاتحادات والجمعيات، التي تلتئم فيها شريحة معينة، ترتبط فيما بينها، باهتمامات ومصالح مشتركة، ذات طبيعة اقتصادية أو اجتماعية أو مهنية، تحدد السياسات التي تدعوا إليها، وتدافع عنها، وتدعم الشرائح المنضوية تحت عنوانها، إضافة إلى أن بإمكانها، أن تتخذ مواقف عامة، من قضايا ذات اهتمام شعبي عام، قد تقع خارج المفردات التي تخصّها مباشرة.

ومن أمثلة هذه التنظيمات، الاتحادات المهنية مثل إتحادات الطلاب وإتحادات العمال وإتحاد الفلاحين وإتحاد الاقتصاديين أو إتحاد الحقوقيين، وبضمنها النقابات المشكلة لها، فضلاً عن النقابات المهنية الأخرى، مثل نقابات "المحامين، الصحافيين، المعلمين، المهندسين، المهندسين الزراعين، الأطباء، أطباء الأسنان، الصيادلة، المهن الصحية، المحاسبين والمدققين، وغيرها"، التي تشكل رأس الهرم، في جماعات الضغط السياسي والاجتماعي والعام، فضلاً عن التنظيمات الممثلة لشرائح واسعة في المجتمع، كالإتحادات الشبابية والنسوية.

تحظى هذه التشكيلات عادة، بحضور قديم في الساحة العراقية "السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية"، وتتمتع بتقاليد مكتسبة، ودور تأريخي كبير، في تلك المجالات، كما أن هذه التشكيلات، تمتلك نهجا في العمل الديمقراطي، ضمن برامجها وقوانينها، مارسته خلال فترات ليست قليلة من تأريخها.

إن إعلان التشريعات الخطيرة، التي ألغيت خلالها، أكبر شريحة في تلك التنظيمات المهنية، وهي عمال القطاع العام أو الإشتراكي، والتي ربما قد وفّرت تلك التشريعات، مكاسب وظيفية شخصية لهم، لكنها حوّلت اتحاد نقابات العمال، إلى تشكيل هزيل، غير ذي شأن سياسيا واجتماعيا، نتيجة ضآلة دور القطاع الخاص في الإقتصاد العراقي، الذي بقي العاملون فيه، الممثل للطبقة العمالية العراقية، وبالتالي حجم وتأثير العمالة البشرية المحدود فيه.

بينما في التجارب العمالية الأخرى، إذ يرتبط سائر العمال، في مختلف دول العالم، بإتحادات عمالية تقليدية، أيا كانت عناوين وظائفهم في الدولة، أو في القطاع الخاص، تضطلع بدور مجتمعي وسياسي كبير، كنموذج اتحاد الشغل في تونس، على المستوى العربي، أو تجمع PEO في جمهورية قبرص، وغيرها من اتحادات النقابات العمالية، على المستويات العالمية.

وقد جرت محاولات لإلغاء إتحاد الجمعيات الفلاحية، من خلال ربطه بأنشطة أخرى، مثل القطاع التعاوني، أدت الى انحسار دوره المجتمعي والمهني، أسوة بإتحاد العمال، وعلى الرغم من السعي لإبقاء الصورة الديمقراطية، في السلوك الظاهري لهذه التشكيلات، مثل إبقائها على الانتخابات والمؤتمرات الدورية لهيئاتها العامة، غير أنها كانت تقترب شيئا فشيئا إلى الصورية، من خلال فرض الخيارات على قياداتها، غير أن هذه الإتحادات العريقة، استمرت قائمة بعناوينها، ومكاناتها المجتمعية الإعتبارية.

كما أن زجّ التنظيمات الطلابية، بالعمل السياسي، كواجهات للأحزاب والكيانات السياسية الفاعلة، وكذلك إيجاد تنظيمات شبابية موازية للعمل الطلابي، التي قد تتشابك في أنشطتها وفعالياتها معها، وتسعى لإقحامها في الصراعات البينية، قد أضعفت الدور التاريخي لتلك التنظيمات الطلابية، وعموم الحركة الطلابية، لكنها قد حافظت وإن شكلاً، على تقاليدها المهنية التأريخية، وحضورها الإجتماعي، وبعضا من بنيتها التنظيمية، خاصة في منظمات الخارج.

وفي الحقيقة أن بعض هذه التنظيمات النقابية والمجتمعية، قد سبقت في زمن تشكيلها، تلك الأحزاب والحركات السياسية، التي باتت تمثل واجهات مجتمعية لها، كالتنظيمات النسائية العراقية، التي تأسست في مطلع أربعينات القرن الماضي، وكان لها الحضور المجتمعي في الكثير من الأنشطة، وبضمنها السياسية والتشريعية.

إضافة الى الحركة الطلابية العراقية، التي كانت في طليعة الأنشطة السياسية والمجتمعية، الفاعلة في الشارع العراقي، وقد سبقت تأسيس الأحزاب السياسية التقليدية، بل ساهمت في تأسيسها بفعالية، قبل أن تختزل الى كل من الإتحاد الطلابي العام، والإتحاد الوطني لطلبة العراق، والتي أدت أدوارها لاحقا، كواجهات مهنية، للأحزاب الفاعلة آنذاك، إضافة الى التيارات الدينية السياسية، وواجهاتها الطلابية الشبابية والمهنية، ومن ثم التيار المدني بسائر عناوينه.

وعليه فهي من الدروس الرصينة، التي ينبغي على تنظيمات المجتمع المدني، الممثلة لهذه الشرائح المجتمعية والمهنية، أن تتلقفها في هذه المرحلة الفاصلة، لتكون تنظيمات مستقلة في قراراتها، وغير عقائدية في رؤاها، ولتكون ممثلة لجميع المنتسبين للشرائح المجتمعية المنضوية تحت عناوينها، ومعبرة عن مصالحها وهمومها، ومستوعبة لتطلعاتها المستقبلية، لأن الفرز السياسي والعقدي، لهذه التنظيمات، سيفضي الى تفريعات وتشظية أفقية لها، وبالتالي إضعافها وعدم تمكينها من أداء مهامها.

وقد تكون النقابات المهنية الأخرى، والتي جرى ذكرها مثل "المحامين، الصحافيين، المعلمين، المهندسين، المهندسين الزراعين، الأطباء، أطباء الأسنان، الصيادلة، المهن الصحية، المحاسبين والمدققين، وغيرها"، لا تختلف بواقعها، عن سواها من تنظيمات الإتحادات المهنية، التي جرى عرضها، لكنها بالتأكيد، تحظى بعراقة تأريخية، ومكانة اجتماعية واعتبارية مرموقة، لم تتأثر بإنحسار أدوارها، بسبب التداعيات السياسية، أو صراعات المصالح المختلفة، مما جعلها تصمد في الحفاظ على وحدتها.

وقد جرت محاولات لإحداث تشكيلات موازية لها، لكنها انحسرت تدريجيا، لتبقى الأصول صامدة، خاصة في أداء أدوارها المهنية، في إنتظار تطور الظروف السياسية، ليكون لها الدور المأمول، اجتماعياً ورقابياً، خاصة تلك المتعلقة بالإعلام والعدالة الانتقالية، والتنمية والخدمات، التي تنشط فيها هذه النقابات المهنية.

عليه فإن المعالجات المطلوبة لهذه التشكيلات، تختلف عن سواها من مكونات المجتمع المدني، كونها قائمة بتشريعاتها وتقاليدها، فيتطلب فقط إجراء الإصلاحات المطلوبة في التشريع والممارسات، مع وضع آليات لضبط السلوك الديمقراطي فيها، وضمان المشاركة السليمة لها، في واقع العملية السياسية والدستورية، في الدولة العراقية، وإعادة النظر بالإجراءات الفورية السريعة التي اتخذت بشأنها، ومن ضمنها تشكيل القيادات المؤقتة لها، خلال المرحلة الراهنة، ليجري إعادة تشكيلها، وفق الأطر الديمقراطية الشرعية السليمة، كمثال التجربة الحالية لنقابات العمال.

وستشرع الدراسة القادمة، الى استقراء نطاق المجموعات "العامة"، والتعريف بمدركاتها، ومهامها ومسؤولياتها، واشتراطات عنوانها، وفق المتبنيات الأكاديمية، في الفكر المجتمعي ومنطلقات العقد الإجتماعي، وبشكل متواز، سيجري إلقاء الضوء على الرؤى والخصوصيات، في الفكر المجتمعي الإسلامي، والذي يستند الى حجيات استدلالاته النقلية والعقلية، وبالتالي أحكامه واجتهاداته الفقهية، والتي تشمل في أساسياتها، سائر فضاءات الفكر الديني المجتمعي.

اضف تعليق