q

تبدو قضية التسليم بميل الإنسان الفطري للعنف ضعيفة ولا تصمد، والحديث عن مسببات هذا الميل هو الأكثر فعالية ونجاعة في حال أردنا مناقشة استفحال ظواهر العنف في المجتمعات، خصوصاً مع تعقيدات الحياة وتناقضاتها وتأثيراتها المباشرة على سلوكيات الفرد الإنساني.

ويحتاج الإنسان إلى فترات استراحة وتأمل للتخلص من ضغوط الحياة، وشحن ذاته بطاقة إيجابية تعينه على إكمال دوره في الحياة، فكيف به وهو يرى في وسائل الراحة ضغطاً إضافياً وعبئاً يزيد من مساحة تشظيه ومتاهاته الوجودية؟

والمعروف أن الآداب والفنون من الوسائل التي يفترض أنها تساهم في بناء الإنسان، لكن الإنسان اليوم يجد نفسه إزاء ضغط هائل تمارسه عناصر كان يرى أنها تساعده على التخلص من الطاقة السلبية، وإذا بها تجعله مستنفراً لذهنية المتاهة والعنف، ولعل السينما من أبرز هذه العناصر من خلال إيهام الآخر من أنها تطرح مشاكل الوجود البشري وتساهم في إيجاد الحلول الممكنة لها، وفي الحقيقة هي تساهم في تعزيز الميل نحو الأفكار السلبية التي تصل إلى التطرف في أحيان كثيرة، خصوصاً تلك الأفلام التي تقدم الظواهر السلبية على طبق مخيالي يقترب من الأسطورة والخرافة بحيث تجعل المتلقي مؤمناً بأن لا وجود لمثل هذه الظواهر في الواقع، لكنها وبمكر شديد ترسخ الظاهرة في ذهنية المتلقي وخصوصاً من صنف الشبان المراهقين المنبهرين بأفلام (مصّاصي الدماء)، ويشاهدون كيف أن أبطال هذه الأفلام يتلذذون بسلوك العنف حتى وإن كان الواقع يؤكد أن لا وجود لمصاصي الدماء على أرض الواقع، لكنك تشعر أن برمجةً معينةً تسعى لفعل يجعل الإنسان في حالة من انفصام الشخصية تمهيداً لتفككها وبعثرتها بين ما هو موجود فعلاً في الواقع الحياتي وبين ما هو متخيل وتأملي تقدمه سينما القناع السلبي الذي يتلبس الأفراد ويجعلهم يخوضون في متعة إيذاء الآخر.

ولكن لماذا يتلبس هذا القناع السلبي الأفراد بسهولة؟ لا شك أن حالة الفراغ التي يعيشها المراهقون خصوصاً في الغرب، وغياب القيم الأخلاقية لدرجة التلاشي، تساهمان في تسهيل مهمة هذا القناع المخيف والذي تُرَوّج له دعايات مكثفة وهائلة تصرف عليها الملايين من الدولارات غير آبهة بمصير الإنسانية طالما أن السلطة هي سلطة الجشع والطمع والربح التي تفرض هوليود منطقها الذي لن تستطيع الجهود العقلانية في أمريكا أو غيرها من الوقوف بوجهها أو التصدي لها.

إن أخطر ما جاء به المنطق الهوليودي هو تلك الخدمة المجانية التي قدمتها أفلام العنف والجريمة المحرضة على الكراهية للجماعات الارهابية التي تفننت في تقديم الرعب للعالم، والعالم كله شاهد كيف أن هذه الجماعات المتطرفة اجتهدت في مسرحة عملياتها الاجرامية من حرق وذبح وإغراق للأبرياء. ولم تتفطن المؤسسات المعنية بالغرب لهذه الخدمة الهوليودية إلا بعد عمليات ذبح طالت صحفيين من أميركا وأوروبا، فحدثت المقارنات التي أجراها مختصون على مستوى المؤثرات صوتياً وبصرياً ليصلوا غلى حقيقة أن هوليود ساهمت في الترويج لحفلة الجريمة المتطرفة التي كادت أن تفتك بالبشرية.

وتفطن المؤسسات الغربية لتأثير هوليود في انتشار الظاهرة العنفية يعبر من جهة ثانية عن تناقض في المواقف، فأين كانت قبل أن يطال العنف رعاياها من الأمريكيين والفرنسيين والبريطانيين؟ ولماذا هذا التقسيم اللاإنساني للنوع البشري؟

إن الإشارة لحالة التلازمية بين الأفلام التي تنتجها هوليود وسلوكيات الظواهر المتطرفة الممسرحة وفق الذوق السينمائي الهوليودي؛ لا تكفي لإزالة آثار العنف المنتعش بقناع السينما، بل ينبغي العمل على تكثيف الجهود من أجل إصدار قوانين وتشريعات تمنع منطق الربح المتوحش على حساب كرامة الإنسان وحياته من التمدد والحضور في الحياة على أنه حالة طبيعية، وأن مخرجاته من مخرجات الترفيه.

ويبدو الحديث عن إمكانية إصدار مثل هذه القوانين مستحيلاً أو حالماً في ظل هيمنة هوليود على الذوق الغربي، لدرجة أن الأطفال اليافعين يصرحون بمتعتهم في مشاهدة الأفلام التي تنتج مشاهد العنف والجريمة، ويمكن الاستشهاد برأي الأطفال هنا لنرى تأثير قولها على الجماعات المتطرفة التي قامت بتجنيد الأطفال، وإدخالهم في معسكرات تدريبية تتضمن التدريب على الذبح والتفجير والتفخيخ، وغيرها من وسائل انتاج الجريمة، هذا فضلاً عن الجهات التي تقف وراء هوليود ووراء مشاريعها التي تمول لجعل الإنسان حطباً للإيديولوجيا والتصارع على المصالح، حيث قال الفرنسي جاك دريدا معلقاً على أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 : "إن أكثر ما هو مرعب في هذا الإرهاب ضد الغرب، هو أنه وليد الغرب نفسه، وبأدوات الغرب نفسه، إنه عنف الحداثة ضد الحداثة، وليس عنفاً من خارجها".

وإذا كنا نطالب السلطات بتشريع قوانين تمنع التمدد العنفي من بوابة السينما، كيف سنبرر حصول مخرجي هذه الأفلام على أرفع وأعلى الجوائز؟ كم مرة فاز مخرجو هوليود بجوائز الأوسكار وغيرها من الجوائز الرفيعة التي منحت لأفلامهم المحتفلة بالجريمة وتطاير الرؤوس أوسمة وميداليات الفوز؟

إن العالم اليوم بحاجة إلى صحوة فكرية، واستنفار ذهني من اجل التنبيه إلى مخاطر الترفيه بالعنف، خصوصاً إذا ما تم بمباركة السلطات التي تشيد بالمؤسسات التي تصنع هذا الترفيه البشع والوحشي وتعده من عوامل النجاح والتقدم !

اضف تعليق