q

مع كل مايوليه علم الاجتماع من أهمية كبرى لمفهوم التعددية؛ مازال العالم اليوم واقعاً في شراك أزمة القبول الفعلي بالمفهوم بعد استهلاك الكتابات والتنظيرات المسهبة في شرحه، خصوصاً مع حالات تناقص الشعور بالمسؤولية تجاه الهويات الوطنية، وغياب ملامح التماسك المجتمعي، في ظل استخدام (سياسي) لهذا المفهوم؛ بهدف الحصول على مكتسبات آنية تنتفع منها الأدلجة على حساب المنفعة الإنسانية العامة.

في قاموس (هاربركولينز) لعلم الاجتماع، ثمة فقرة تتعلق بمفهوم التعددية من الزاوية الثقافية مع تشديد على ضرورة إدراك أبعادها وتعزيزها عملياً : " فالتعددية الثقافية تحتفي بالتنوع الثقافي وتسعى إلى تعزيزه، على سبيل المثال: تشجيع لغات الأقليات. وهي تركز في الوقت ذاته على العلاقة غير المتكافئة بين الأقلية والثقافة السائدة ".

وهذا من الناحية النظرية كلام يبدو في منتهى الرومانسية، لكن ماذا عن التطبيق؟ وهل فعلاً استطاعت المنظمات والدول تجسيد هذا التنظير إلى فعل ملموس، في ظل موجات الهجرة المتزايدة إلى بلدان أوروبا وأستراليا وكندا، واختلاط الهويات والثقافات ، ومشاكل الاندماج بالمجتمعات الجديدة؟ وهل أن الاندماج بالوضع الجديد سيعني للوافدين التنازل عن خصوصياتهم وثقافاتهم؟

في عام 1966 (أجاب روي جنكينز) وزير الخارجية البريطاني في ذلك الوقت عبر بيان شكَّلَ إطاراً عاماً للوافدين ودمجهم ثقافياً في التكوين السياسي لبريطانيا1:

"ربما تكون لفظة الاندماج فضفاضة إلى حد بعيد، فأنا لا أراها تعني فقدان المهاجرين لخصائصهم وثقافتهم القومية، ولا أظننا في هذا البلد بحاجة إلى (بوتقة) تُشكل كل فرد في قالب مشترك كنسخة من ضمن سلسلة كربونية من تصور خاطىء عن الرجل الإنجليزي النمطي. لذا أنا أعرف الاندماج ليس على أنه عملية تسطيحية تهدف إلى التجانس، بل إلى التنوع الثقافي، الذي يصحبه تكافؤ الفرص في ظل مناخ من التسامح المتبادل".

ولا نعرف ــ بطبيعة الحال ــ لأي مدىً وصلت عبارة (تكافؤ الفرص) التي أشار إليها الوزير البريطاني، بعد أن ركز على التنوع الثقافي والتسامح وقيم التعايش.

ويرى (علي راتانسي) أن التعددية الثقافية اتسمت بالصبغة العرقية منذ نشأتها؛ لأنها استمدت فحواها من الشعوب التي أقامت في مستعمرات أوروبا، وبطبيعة الحال كانت النظرة لهذه الشعوب على أنها أعراق من درجة أدنى.

وتكاد تكون المسألة العرقية هي المهيمنة على كل النقاشات التي تبحث في قضايا التعددية، بل أن هيمنة العرق صارت تمثل أرقاً حقيقياً منطلقة من الشبح المخيف (العنصرية)، وهو شبح مسكوت عنه ــ في أوروبا خصوصاً ــ؛ لأنه قد يضع المساعي أو لنقل المشاريع التي تتحدث باسم الاندماج في خانة التناقض، ويمكن أخذ الأنموذج الألماني كمثال على اعتبار أن ألمانيا في الفترة الأخيرة كانت من أكثر بلدان أوروبا قبولاً للمهاجرين من البلدان التي عاشت وتعيش جحيم العنف والحروب، فضلاً عن الحروب التي يسببها تعدد الهويات العرقية والدينية، وصراع الأقليات مع الأكثرية.

مشكلة الاستيعاب

ثمة مشكلة اخرى تبرز على السطح قد يعزز الهاجس العرقي من تفاقمها، وهي: مشكلة الاستيعاب التي تبدو شبه مستحيلة؛ لأسباب يبدو لون البشرة في مقدمتها بعد ازدياد العداء بين أصحاب الألوان المختلفة، وهي مشكلة لها جذورها القديمة والمتواصلة حتى مع كل ما وصل له العالم من تداخل بفعل التقدم التكنلوجي، حتى أن هذه المشكلة صارت تحضر بكثافة في الأنشطة الرياضية وفي أكثر الألعاب الرياضية شعبياً وهي لعبة كرة القدم، حيث كثيراً ما نشهد بعض الهتافات العنصرية بين مشجعي الفريقين المتباريين، أو هتافات من جمهور فريق معين ضد لاعب ذي بشرة سوداء في الفريق المنافس لفريقهم. ومثل هذه السلوكيات العنصرية، تزداد حتى مع العقوبات التي تفرضها القوانين.

هذا المثال الرياضي، نستشهد به لتدعيم مشكلة الاستيعاب، إذ أن العنصرية ممثلة بالعداء بين البيض والسود تبرز في لعبة رياضية في مدة أقصاها 120 دقيقة؛ كيف السبيل لحلها وهي تطل من نافذة الاستيعاب لمهاجرين سود لبلدان البشرة البيضاء؟ خصوصاً إذا ما علمنا أن فترة مكوث هؤلاء المهاجرين قد تمتد لسنوات طويلة، إذا لم تمتد إلى الأبد.

وتتفرع من مشكلة الاستيعاب مشكلة التزمت تجاه الخصوصية التي قد تمثل من المهاجر استفزازاً للمُضَيِّف، وهذه المشكلة تتعلق بعدم الاستعداد للتنازل عن اللغة والدين وبعض السلوكيات الاجتماعية التي تؤكد الفوارق الشاسعة بين الثقافات المتباينة، والتي يراد لها الاندماج. حصل مثلاً مع عائلة سورية مهاجرة إلى ألمانيا، وتم قبولها ومنحها حق الإقامة بعد الأهوال التي لاقتها خلال الحرب الدائرة في سوريا. هذه العائلة، وبعد ان استقرت في إحدى المدن الألمانية؛ تمت دعوتها من قبل الجيران لحضور حفل زفاف، وإلى هنا فإن كل شيء يبدو طبيعياً حتى مع الاختلاط بين الجنسين في هكذا حفلات قياساً بعلمانية المجتمع الألماني.

الصدمة كانت حين ظهر الزوجان وهما من جنس واحد وبينهما رجل دين يتلو عليهما مراسم الزواج الطبيعية، إذ أن القانون هناك يسمح بزواج الرجل من الرجل، والمرأة من المرأة كما في هذه الحالة التي صارت أمام العائلة المهاجرة التي لم يتحمل احد أفرادها هذا المشهد الشاذ وتصرف بعصبية حركتها نوازعه الشرقية، ما أدى إلى تدخل الشرطة وإلغاء الإقامة وطرد هذه العائلة التي واجهت أثناء الحفلة سيلاً من الشتائم التي تفوح منها رائحة النازية.

---------------------------
1: يُنظر: التعددية الثقافية، علي راتانسي، كلمات عربية للترجمة والنشر، ص19

اضف تعليق