q

يبقى السلوك أياً كان نوعه وشكله وحجمه، محكوما بطبيعة فكر الإنسان، وتربيته ونوعية بيئته، فالتوازن في البيئة، وتمرير الفكر المعافى الى العقل، سيكون شفيعاً لصناعة عقلية سليمة، تعكس سلامتها على سلامة السلوك، فالأصل في طبيعة السلوك هو الفكر الذي يغذَّي العقل، وحين يصير الإنسان نرجسياً محبّاً لذاته، فهذه علامة بارزة على خلل في البيئة الفكرية له.

يبحث علماء الاجتماع والتربية والنفس سويّا في تفسير أو تعريف الأنانية، فيقدمون إيضاحاً مقترَحا لها، فالاستعلاء نزعة تتبنّي الآراء الإيجابية حول الذات، وتعزيزها، ويتضمن ذلك عادةً رأيًا محابيًا للذات بشأن السمات الشخصية والأهمية الذاتية، سواء من الناحية العقلية أو البدنية أو الاجتماعية أو غيرها، ويروْن أن الأناني في الأغلب الأعم يتبلور لديه شعور يحتفي بمركزية الذات، أي بسمات الفرد الشخصية، ويعني ذلك أن الإنسان يتخّذ من ذاته مركزًا لعالمه دون الاهتمام بالآخرين، بما في ذلك من يحبهم أو يعتبرهم "مقربين"، إلا في الإطار الذي يحدده هذا الشخص.

وترتبط الأنانية ارتباطًا وثيقًا بـ حب المرء لذاته، أو ما يسمى بـ النرجسية، ويرى البعض أنه عند ذكر الأنانية، يرد في الذهن صورة "النرجسية الاجتماعية"، ولدى الشخصيات المتسمة بالغرور نزعة قوية للتحدث عن أنفسهم بأسلوب معزِّز للذات، وقد يتسمون أيضًا بالتعجرف والتفاخر، مع شعور بالعظمة فيما يتعلق بأهميتهم. وتؤدي عدم قدرتهم على الاعتراف بإنجازات الآخرين إلى زيادة مبالغتهم في تقدير الذات؛ بينما حساسيتهم من النقد قد تؤدي بهم إلى حالة من الغضب النرجسي عند شعورهم بالإهانة.

ما يهمّنا في هذه المقالة هي (الأنانية السياسية) التي بدأت منذ عقود تتحكم بمصير البشرية، مع مقت الفكر المنتِج لها، وهو يكاد يشكل ظاهرة عالمية، أخذت تقود عالمنا - شيئا فشيئا- نحو حافة الفناء الذاتي، أي إنهاء العالَم لنفسه فيما يُشبه حالة الانتحار، ولو نشطت مراكز البحوث العالمية المستقلة في استقصاء عبث الأنانية المطلقة، ورصدها بقوة العلم والتجريب والتنظيم، لانتهينا الى أن كوكبنا ماضٍ الى حتفه، بمعاول لا تزل تجرف القيم الإنسانية وتلقي بها في مزابل المال والمادة والجشع العالمي المقبل بشرهة على تخريب العالَم.

إن البيئة المريضة فسحتْ المجال للمادية بالتوسع والانفلات، فتلاقتْ مع الفكر الأناني لكبار قادة العالم من (ساسة، واقتصاديين، وعلماء، وأكاديميين، وتربويين، نخبويين)، وحوّلتهم الى أدوات يحركها الجشع، فكل هؤلاء الذين تحكّموا بمصير الأرض ومخلوقاتها، شجعوا الفكر الأناني، باستلطافهم له، وترحيبهم واحتفائهم به، فتحوّل حتى القلّة الأخيار منهم تدريجيا الى قادة ليسوا أسوياء، فصارت المعمورة كلها مثل كرة نار ملتهبة، تدور وتضطرب لتتجشأ أزمات التخريب، والتطرف، واللهاث المحموم نحو اكتناز المال.

لهذا خلقوا للغالبية العظمى من خلائق البسيطة، وباءات من الكراهية، وأزمات مالية اقتصادية خانقة، وعبث منفلت، واحتراب شبه شامل، وبغضاء مشحونة بالدمار، فصًيِّرَت الأرض ساحة لاستيعاب فكرهم المحتفي بالتبجح والغرور والعجرفة، وانعكس ذلك بصيغة قرارات وأفعال مدمِّرة ألحقت البؤس والفقر والجهل والخوف بمليارات من البشر، ولم يتنعّم بثروات البسيطة - ما فوقها وما تحتها- إلا هؤلاء المرضى بالأنانية والنرجسية وزراعة التطرف في البلدان الأكثر فقرا في العالم، وهي الأغنى بثرواتها، لكنها لم تنعم إلا بما يسد الرمق!.

ألا يسحق قادة العالم المرضى، لعلاج خاص في أكبر مشافي الأرض، ونقاهة منتقاة تُفرَض عليهم فرضاً؟، على الأقلّ حتى تستعيد البشرية منظومات القيَم التي قوَّمت فكرها وسلوكها وأخلاقها وثقافاتها وتقاليدها، فقد شرعتْ الأنانية المطلقة في برنامج منتظم بنسف المخزون القيَمي الإنساني، فنسيَ الإنسان إيمانه، واشتدَّ أوار الصراعات، فصار الأخ يقضي على أخاه من أجل المال، والابن يدمّر أباه لأنه يقف حجر عثرة في طريق أنانيته ونرجسيته.

إن هذه الكائنات القيادية لا تدرك حتى اللحظة ما تفعله، وهي قد لا تعرف الى أين تمضي بالبشرية، وربما أعمى بصيرتها المال والمادة، فتغابت عن الحقيقة المرعبة التي تحاصر الأرض بترسانة نووية يمكنها أن تدمر الأرض بما عليها عدة مرات، والأقسى والأغرب في هذا المشهد البونورامي أن مفاتيح الأزرار النووية مؤمَّن عليها لدى هؤلاء الأنانيون الجشعون، فمن يا تُرى سينقذ العالم من (جنونهم)؟.

الفكر الأناني المادي المتبجّح، هو المسؤول الأول عمّا يحدث في المعمورة من كوارث من صنع العقل السياسي الاقتصادي المريض، وما نسف كنوز القيم الإنسانية، وتبديلها بقيم المال والنرجسية والطمع، إلا شاهد حيّ على ضحالة الرؤوس التي تدفع بعالمنا ناحية الانهيار المحتوم، إذا ظلّ الحال على ما هو عليه، وإذ صمت المفكرون الإنسانيون عن أزلام المال، وتركوا عقولهم المصابة بالعطب القاهر، تلهو بمصائر الأمم كما تشاء، فإن القادم لا يسرّ أحد.

أمّا المُراد فليس أقل من صحوة فكرية تطال العالَم كله، مع شن هجمة مبدئية مضادة، تحيِّد براثن الفكر الأناني، وتقلّم مخالبه وحتى أظفاره، وتعيد للبشرية اعتبارها، وتفتح للفكر المتوازن العقلاني ذي الميول الإنسانية، ألف باب وباب وألف نافذة ونافذة، ليصير العالَم في مأمن من مصير تخريبي محتوم، وكم يصيبنا الأسف والمرارة، حين نشعر أن جميع الأفكار المنصفة قد ضُرِبَت في الصميم، وأُطيحَ بها غيلةً وغدرا، فقد انتهت مبادئ المفكرين الأفذاذ من صنّاع القيم الإنسانية الى الصمت والمحاصرة والتكميم، لتحل محلها الأنانية المطلقة، والمادية المجحفة، والقادة المرضى عقلا وفكرا وسلوكاً.

نحن هنا لا نروم الدوّران في مدار التشاؤم، ولا نبتغي تقديم صورة سوداوية عمّا يجري في كوكب الأرض، إنها شاشة الحقائق الكبرى، تضع في قُبال أبصارنا وبصائرنا واقع العالم الأناني المضطرب، ولا نمتلك سوى (الكلمات)، ندفع بها الى واجهة الصدام والتحذير مما سيؤول إليه عالمنا المشتعل بالأزمات المصنوعة في بوتقة الفكر الأناني المطلق، فهلّا من جادّة تصل بنا الى عالمٍ مقبول ومعقول؟؟.

اضف تعليق