q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

نحن والنكسة

ليس هناك كلمة أشد ايلاما في ذاكرتنا العربية من كلمة "انتكاسة" بل هي الاكثر وجعا في معاناة الذات العربية، انها تعود بالذاكرة العربية الى الايام المريرة الستة من حزيران، تلك الايام التي ضاعت فيها الكرامة والارض، وهل يعدل الانسان شيئا بعد الكرامة والارض؟

انتهت حرب حزيران بعد ستة أيام من اعلانها في العام 1967م لكنها رسمت خطوط المعادلة العربية الحديثة الى الآن، وكان أخطرها اهتزاز الثقة بالذات العربية التي ظلت تعيش معاناة السؤال الوجودي، ماذا يمكن ان تصنع ذات مهزومة على كل أصعدتها العسكرية والسياسية والاقتصادية؟

هنا بدأ اغتراب الذات لكنه ليس ذلك الاغتراب الذي تحدث عنه هيغل في سيرورات التطور، أو الاغتراب الذي يتطلب ذلك الصراع من أجل التغيير في عملية التطور، لأننا أمة العرب لم نعد قادرين على الصراع وبذلك يتحول الاغتراب لدينا الى ذلك النوع من الاغتراب الذي تشعر فيه الذات بأنّها صارت غير قادرة على اتخاذ القرار لأنها فقدت قدرتها وسيطرتها على طاقاتها وامكاناتها، فيتسلل الشعور الى نفسها بالضعف فتلجأ الى الاستناد الى قوى خارجية لاسيما في ظروف الصراع لتوفر لها القوة والحماية، ولأنها قوى خارجية بالنسبة الى ذاتنا ونعول عليها أكثر من علاقتنا بذاتنا فانه في هذه الحالة نشعر بالاغتراب عن ذاتنا وهو ما يمكن ان نستنتجه استنادا الى تعريف اريك فروم للاغتراب.

لقد اغتربنا عن ذاتنا كثيرا وسط هذا العالم الذي تمثله القوى الكبرى الخارجية ونستند اليها في الامن والحماية والاقتصاد، ويتحول اغترابنا لدينا نتيجة محاولتنا تكريس الانتماء الى كره لذاتنا، فلم نجد امة في هذا العصر أكثر كرها لنفسها من العرب، لأنها ذات معطلة غير قادرة على ادارة الصراع، غير قادرة على الانتاج على كافة الصعد، غير قادرة على العطاء في عالم صار العطاء والانتاج مفتاح بوابته الكبرى.

لقد تحول الاغتراب بديلا عن الوعي بالذات لدينا الى هزيمة نفسية لدينا، أو لعله من آثار الهزيمة النفسية التي أعقبت نكسة حزيران، لقد تعرّت ذاتنا أمامنا بأننا أمة كلام لا أمة فعل فعدنا لا نطيق احتمال ذاتنا فضلا عن الفخر بها، وقد تجلت عدم القدرة على هذا الاحتمال في ظاهرة الادب العربي الحديث الذي غاب عنه المديح والفخر بالذات العربية بعد ان كان يشكل مادتها في بداية عصر النهضة العربية، لقد ظهر شعر قباني وأحمد مطر لهجاء الذات المهزومة التي كانت تستلذ بهذا الهجاء لتتحول الى ذات مأزومة وتقول لكل شاعر يبرع في الهجاء احسنت في توكيد هزيمتها أمام ذاتها.

ثم تكتمل حلقة الهجاء لكن هذه المرة في جلد الذات وتحت اسم النقد كانت حروف ثقافتنا تكتب ما تفرضه الهزيمة نفسيا علينا، فالنقد الثقافي الذي نمارسه والذي يفترض به الحياد العلمي هو نقد منحاز بالنسبة الينا، منحاز الى ادانتنا، منحاز الى اغترابنا السلبي عن ذاتنا، لكنه وقع الهزيمة الذي ترسخ في الوعي لدينا، فتارة نحن أمة بدوية غير قابلة للحضارة، وتارة نحن أمة تتلبس بالمقدس المعيق للحركة، وتارة نحن أمة غير قابلة للحداثة، وتارة نحن أمة تقسيم الاعراق يضعنا في آخر قائمة الاجناس البشرية، وكان الغرب يسعى الى تأبيد تلك المقولات لتستقر بداهة في المخيال الغربي.

وقد شهد سلوكنا في القرن العشرين على مقاربات بهذا الاتجاه، فنحن أمة نقتل ملوكنا وندمر دولنا ولا نرغب في السلام ولا نكف عن الهزيمة في الحرب لكننا لا نتنازل عن الحرب، ولا نطيق السلام بذاتنا في حالة توقيع المعاهدات مع العدو التي نوقعها ليس عن قناعة وانما تحت وطأة الهزيمة فإننا نلجأ الى القتال بيننا، والحرب الداخلية صارت أهم أحداث تاريخنا المعاصر على مستوى دولنا العربية حروبا سياسية وعلى مستوى شعوبنا حروبا دينية وطائفية، وتظل كلها من آثار الهزيمة أو النكسة الحزيرانية تاريخيا، وليس كما يزعم الغرب أنها طبيعة ذاتنا ومركب النقص فينا.

انها انتكاسة الهزيمة في حزيران التي كانت اخطر انتكاساتها في نسيانها ثقافيا وتاريخيا، لقد نسينا النكسة فكنا بذلك ننسى أخطر عوامل هزيمتنا وخسارتنا لذاتنا، ونسيانها هو خسارة مركبة للذات العربية، وحين ينسى الوعي حادثة تبعث الخوف فيه فأنها تتسلل الى اللاوعي لتمكث فيه وتستولي على اللاشعور لتتحول الى أزمة نفسية.

ان الأمم حين تحيا آلام ذاكرتها فإنها أمم لا تريد الانفصال عن ذاتها، ان ذاتها لديها لازالت تحظى بكل تلك القداسة للانتماء ولذلك صنع الألمان واليابانيون من هزائمهم انتصارات وعادت امما حاضرة لأنها لم تنفصل عن ذاتها، لكنها انفصلت عن أفكار في ثقافتها، انها لم تسيء الى ذاتها لكنها حددت إساءة الأفكار الى ذاتها، وبذاك نجت ذاتها من الكره الذاتي الذي يكون حليف الهزيمة ويعقب هذا الكره دائما خسارة الذات.

اننا نؤكد خسارتنا لذاتنا في أعقاب الهجاء الذي مارسته ذاتنا إزاء نفسها في أعقاب نكسة السادس من حزيران، فالذات تؤكد جهوزيتها وحضورها الذي يقّوم وجودها في انتصاراتها وفي الثقة بها، لكن انتصاراتنا لم تتحقق وثقتنا تزعزعت وتحولت هزيمتنا هنا الى أزمة تاريخية ثم لتتحول الى أزمة ثقافية ثم لتتحول الى ازمة حضارية حين يعود السؤال حصريا في...من نحن؟

لقد تردد النقد الثقافي لدينا في الإجابة على هذا السؤال.. فنحن تارة أمة بدوية غير قابلة للحضارة، ونحن تارة أمة تتكرس في التراث الذي ظل في مواجهة المعاصرة تحت مسمى الاصالة، ونحن تارة أمة تتكرس في ما قبل الحداثة وصلدة أمام الحداثة التي غزت العالم ولم تدع منه شبرا دون أن تستحوذ عليه، ونحن تارة امة تتكرس في المقدس المضطرب الذي يلامس السطح دون العمق الجوهري للامة المفترض فيها المقدس.

وهنا يكمن سر اضطراب الامة التي تنفصم فيها علاقة الظاهر بالباطن والعرض بالجوهر والسطح بالعمق، فظاهرنا مقدس وكل واقعنا مدنس، وهنا تبدو هويتنا حائرة ومضطربة، فالذات فينا صارت غرضا للهجاء والنقد الثقافي وهو الذي اورث هذا الاضطراب في الهوية وبعث الاحساس بالحيرة إزاء هويتنا بعد ان لم يعد ممكنا لدينا الفصل بين الذات والثقافة أو الذات والأفكار مثلما تصنع الامم الحديثة الخارجة من جحيم الهزائم.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2017Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق