q

من أخطر المشكلات التي واجهتها البشرية هي قضية الإكراه والقهر الفكري، وحصر السلطة والنفوذ وقوة المال بأيدي قلة لا تؤمن بالعدالة ولا بالقيم المنصفة للإنسان، فمنذ أن وعى الإنسان قيمة الحرية وعاش في كنفها وتنفس هواءها النقي، بدا مستنفَراً ومستعداً ومؤهلاً لتقديم القرابين المطلوبة منه مهما بلغ ثمنها في مقابل دحر الجبرية والإكراه، فالأخير هو نوع من الإذلال غير المقدور عليه من أصحاب العقول الحرة، والقهر هو تحطيم للكينونة الاعتبارية للفرد والأمة، وهو في الآخر إلغاء قسري للوجود الإنساني برمّته، فأينما تجد حربا بين قومين أو شعبين أو أمتين، ستجد حالة الإكراه سببا في إشعال فتيل الحرب بينهما.

هذا الهامش الفكري المريض المتسم بالخبث الشديد، وعاه الرسول الكريم حين شرع ببث رسالته الى العلن، فالمقارعون كثر، والرأي الآخر أقوى بكثير، والصدام لن يأتي بنتائج مأمولة أو مرتقبة، لكن الصبر والإرادة الفولاذية والعمل الحثيث والإيمان القطعي، عناصر مساعدة، يسندها مبدأ حرية الرأي، وكفالة المبدأ وكسب الطرف الآخر وإقناعه بسلامة الرؤية والفحوى، بغير هذه الخطوط العريضة لا يمكن للوليد الفكري أن يجد مكانا له بين الأقوياء الراسخين، حتى لو كان يتفوق عليهم بالفحوى والشكل والهدف والمضمون.

إن الدرس الأعظم الذي قدمه الرسول (ص) للبشرية، يتركز في سياسته التي خلتْ كلّياً من الإكراه وارتهانه لمنهج اللطف واللين والجنوح الى السلم، حتى وإن كان له أعداء أشداء، فعلوا ما فعلوه به لكي يعيقوه عن رسالته ويوقفوا السريان الشفاف لرسالته وفكره كالشلال الهابط من أعالي الجبال الى تربة العقول العطشى، فيملؤها فكرا متوقدا معطاءً ونورا خلاقا، يتزامن ذلك مع اندحار وضمور لافت للقهرية الفكرية المتطرفة، وبهذا الأسلوب الأرقى والألطف والأقرب الى السلم دائما، كسب الرسول الأكرم أشد القلوب جفاءً وقسوة، فصارت الى الإسلام والمسلمين أقرب.

إنه أسلوب مستحدَث لتفتيت المعاداة التي يكنّها المضادون، وهو نوع من زرق شحنات الإيمان الى النفوس والقلوب الصلدة، بحكمة نبوية وهدوء سلس متقن، وقد نجح هذا الأسلوب مع أكثر الأطراف خبثاً وكراهية للرسالة النبوية.

أشار الى ذلك سماحة السيد المرجع صادق الشيرازي فقال:

(روى التاريخ عن سلوك نبينا صلى الله عليه وآله: أن قومه يحاربوه مع ما يعرفوه من صدقه وأمانته ونبله وكرم أخلاقه، بمختلف أنواع الحروب القاسية ويطردوه من موطنه ومسقط رأسه، ثم يتركهم أحراراً وما يختارون من دين وطريقة حياة؟! لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يهديهم وينصحهم ويوضّح لهم طريق الرشد ويميّزه عن طريق الغيّ ثم يترك الاختيار لهم (فمَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر)/ المصدر كتاب الحرية في الإسلام للمرجع الشيرازي).

فحرية الفكر والاختيار كان يجسد المبدأ الأعظم في انطلاق الرسالة النبوية، وكل الدسائس المحرَّفة عن إجبار الآخرين سواء من أهل الكتاب أو غيرهم على الدخول إكراها في الإسلام، ما هي إلا ترّهات وأكاذيب لا ترقى الى الحقيقة مطلقا، فثمة أصدقاء نصارى ويهود للرسول الأكرم، ولم يحدث أي نوع من الجبرية أو القسر كي يدخل فلان أو علان بالقوة الى الإسلام.

فالتاريخ (لم يسجّل ولو حالة واحدة يكون فيها رسول الله صلى الله عليه وآله قد أجبر ذمياً على اعتناق الإسلام، والتاريخ حافل بسيرة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله، وسجّل وحفظ الدقائق عن حياته/ المصدر السابق).

وإذا كان التاريخ شاهدا في بعض حلقاته الأكثر إشراقا على سياسة الرسول (ص) القائمة على عدم (الإكراه)، فإن هذه السياسة ظلت حاضرة المفعول في المنهج السياسي العظيم للإمام علي عليه السلام، فقد أخذه عن أستاذه وقائده ورمزه ومدرسته العظمى التي رفدته بأعظم مبادئ الرسالة النبوية، ألا وهو (الحرية الفكرية، وعدم الإكراه)، وهو أسلوب مبدئي مستمَد من روح الإسلام ومن منهج الرسول (ص) في طريقة معالجته للرأي المعارض، فلا تكميم مطلقا، ولا قهر، ولا قمع من أي نوع كان، الرأي الآخر له حرمته، فهو مصان لأنه جزء من الحرية، والأخيرة مبدأ مقدس عند علي (ع) الذي درسه على يد معلمه الأعظم محمد (ص).

ولو أننا استرجعنا تلك الحقب المعقدة، ورأينا كيف يتعامل الخبثاء الذين مع قائد المسلمين علي بن أبي طالب، لولينا منهم فرارا، ذلك أن الحقد يملأ قلوبهم والغيظ يحيط بنفوسهم، وأنهم معارضون بلا مبدأ ولا فكر ولا حجة ولا رأي ولا هدف ولا رؤية، إنما هم معارضون من أجل المعارضة فحسب، وما كان يزيد الطين بلّة، أن هؤلاء من أسافل القوم مكانة ووجودا ورجاحة عقل، ذلك أنهم من صنف الجهلة الذين لا يعرفون ما يريدون، تأخذهم كلمة الى اليمين وتعيدهم أخرى الى اليسار، مع هذا النوع من الرؤوس الفارغة كان يتعامل الإمام علي ومع هذا كله كانت الحكمة والرشد والعدل والمساواة والرحمة هي القيم التي تحدد سياسة قائد المسلمين الأعلى الإمام علي عليه السلام.

من الأقوال المهمة التي نقرأها للسيد المرجع الشيرازي ما يقوله: (لو انتقلنا من رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أهل بيته سلام الله عليهم لرأينا الحالة نفسها. فها هو الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه قد كان مبتلىً بأشخاص ذوي نفسيات وضيعة تردّ عليه وتقطع كلامه وتجادله بالباطل بل حتى تتطاول عليه، وهو مع ذلك لا يأمر بقتلهم وسجنهم ونحو ذلك، وهو الحاكم الأعلى/ المصدر السابق).

هكذا كان (عدم الإكراه) وكانت الجبرية بعيدة عن سياسة النبي (ص) وتلميذه الأقرب علي (ع)، فإنهما القائدان اللذان جسّدا روح الفكر الإسلامي في قيادتهما للمسلمين، واليوم نحن في أحوج ما يكون الى هذا النوع من القيادة، فهي يجب أن تكون نموذجا فعليا لقادة المسلمين اليوم، وهي قيادة العدل والرحمة والحرية والمدنية بأعمق معانيها.

اضف تعليق