q

في جعبة المراكز والمؤسسات العلمية فيض من الأنشطة التنظيمية على مدار الوقت، أبرزها سياقات تخص عمليات الاختبار العلمي والمفاضلة بين الأكاديميين والعلماء، وثمة من يتبنى تثبيت الحاجة القصوى للاختبار، هذا ما يؤكده قادة ومدراء المراكز والمؤسسات العلمية عن مدى حاجتنا العلمية للخوض الدوري المنظّم في غمار المفاضلات المختلفة، كونها حقول تدريب ومران وتدشين فعلي يكشف خبابا المواهب والمؤهلات، فيدخل معنى الاختبار في المفاضلة بين السمات الفردية للأشخاص وطاقاتهم المكتنزة موروثاً أو اكتسابا.

هذا التوجّه يبيّن أن الاختبار العلمي له اشتراطات لا مناص من الأخذ بها واعتمادها علميا وعمليا، من أهمها نبذ السياق التلقيني في التعليم والاختبار معاً، فلا فائدة في علم يتم توصيله للوسط المستهدّف بوساطة التلقين، ولا جدوى من اختبار يصبح سياقا روتينيا أو نوع إسقاط الفرض لا أكثر، ذلك أن التلقين يقتل المواهب ويدمّر العقول ويشلّ الأدمغة، أما الاختبار السياقي أو التلقيني، فهو لا يختلف كثيرا عن أسلوب التلقين العلمي.

كلاهما يلتقيان في الجمود، فلا إبداع ولا أي هامش للابتكار في الاختبار التلقيني، ونحن على أبوب الخروج من سنة علمية كاملة شدّت الرحال الى غير رجعة، ونقف على أعتاب سنة جديدة تشرع أبوابها، وما على المؤسسات العلمية الجامعية وما يتبع لها من مراكز ومنظمات، وما على مؤسسات الدولة العلمية أيضا، إلا دراسة ما تم تقديمه في السنة التي ودعتنا، فعلينا أن نعرف أخطاءنا فيها، ونعني كوادر المؤسسات العلمية والمدراء والعاملين فيها، والأهم في ذلك معالجة التهمة التي يوصم بها هذا الكادر التعليمي أو ذاك، بخصوص فرض طرائق وأساليب التعليم التلقيني وإقصاء فرص التفكير العلمي الحر أو الإبداعي المدعوم بالابتكار.

لقد انتهت سنة من رحلة العلم والتعليم، وتخللتها أنشطة مراكز ومؤسسات علمية مختلفة، شابتها وتسللت إليها أخطاء علمية إدارية مزدوجة، أثّرت بشكل أو آخر على النتائج المرتجاة، وقبل الكلام عن الخلل في الرؤية والسياق، آثرنا الإشارة الى الهفوات العلمية الإدارية المزدوجة التي حدثت في تجربة السنة الماضية، ومنها:

- قلة منشآت التعليم بنسبة عالية، بما لا ينسجم ولا يتناسب مع الحاجة المكانية إليها.

- غياب وسائل الإيضاح وعدم توفير الغطاء المالي الذي يؤمّن اقتنائها والاستفادة العلمية الفعلية منها.

- غياب أو تردّي أوضاع المختبرات العلمية بمختلف أنوعها ومهامها، كما يشير الواقع العلمي التعليمي بشقّيه الأهلي والحكومي، لكن علينا الاعتراف بأن التعليم الأهلي بدأ يحقق تطورا متنامياً.

- عدم الاهتمام بتطوير الكادر التعليمي، وإلغاء فرصة الإطلاع على أساليب التعليم العالمي خصوصا في الدول المتطورة.

- تحوّل بعض المراكز العلمية من سياقات الإبداع والابتكار الى السياق الروتيني أو سياسة (إسقاط الفرض) من أجل الحصول على التمويل المالي الروتيني لا أكثر.

- عدم مشاركة المراكز والمنظمات العلمية (إلا ما ندر) في رفد صانع القرار بالمقترحات والرؤية السليمة والقرار المناسب والصحيح في المجالات المختلفة.

- اضمحلال دور المؤسسة الجامعية في دعم صانع القرار الإداري الاقتصادي السياسي، ما يستوجب التنبّه الى ذلك على الفور.

في حال التركيز على سد الفراغ، ومعالجة الأخطاء وحالات الزلل في أعلاه، تظهر الحاجة كبيرة الى إيجاد سياسة علمية تنبذ الأساليب التقليدية في التعليم، وتمنح للاختبار مكانة علمية لا مجال لتركها، ليكون الناتج كادر مستحدَث من العناصر الطلابية المدرّبة حديثا، مدعومة بمؤهلات وراثية اكتسابية تقوم على قواعد الإبداع وإكبار التجديد، عبر الاختبار العلمي الذي لا يُسمَح بإهماله أو التخلي عنه الى أساليب أخرى، كما يدعو الى ذلك أصحاب أصوات دخيلة، ليس لها من العلم حصة أو حصيلة، فحاجتنا للاختبار العلمي لا حدود لها.

كما أن التحجج بانتشار الأسلوب التلقيني على سواه، لا يجب أن يكون مبررا لإلغاء الاختبار العلمي، أو تغييره نحو الأردأ، فيستوجب بقاء الاختبار كحلقة مهمة في الكشف عن الكفاءات والمواهب النادرة، مع أحقيّة تطوير هذا الأسلوب العلمي التعليمي الى درجة أو مستوى يجعله بقامة التحديات، وليكن جديرا بالتطلعات نحو تصميم صرح علمي يمنح دولتنا ومجتمعنا تأشيرة دخول الى العالم المتصدِّر علميا، ويقود العالم تقانيا وصناعيا وعلميا.

وفي المحصلة النهائية، يجدر بالمعنيين النظر الى ما تمّ ذكره في أعلاه، بعين علمية إبداعية تنزع الى التجديد، وتهفو الى التطوير العالمي حتى تصبح بلادنا جزءا لا يتجزأ من ذلك العالم الذي يعيش اليوم في المقدمة، وعينه ترنو الى الأعالي دائما، يحدث هذا بوساطة العلم ومراكز البحوث والدراسات، والمنظمات العلمية المنخرطة في ضمن المؤسسة العلمية الجامعية، أو تحت حياض الجهد الحكومي، ولا يفرق بث النشاط العلمي الصحيح هنا أو هناك، في هذا المكان أو ذاك، فالمهم أن يكون ميدان الاختبار نازعا الى البراعة، ذاهبا الى التفرد، باحثا عن الأندر والأدق، مانحا الدارس والمتعلم ما يكفي من مساحات التحرّك العلمي الحر، نابذا الحدية والتحديد والتطويق التلقيني، مفسحا المجال الى مد الجسور مع كل ما ينتمي الى الابتكار العلمي.

اضف تعليق