q

عرض افلاطون في "الجمهورية" افكاره الفلسفية الشمولية والأكثر نضجا، حيث تعامل بشكل موسع مع المبادئ الأساسية للسلوك في حياة الانسان. نظر افلاطون- مستخدما شخصية سقراط كمتحدث قصصي - الى طبيعة وقيمة العدالة والفضائل الاخرى كما تبدو في كل من هيكل المجتمع ككل وفي شخصية الانسان الفرد. هذا قاد بالطبع الى مناقشة الطبيعة الانسانية، وانجاز المعرفة، والتمييز بين الحقيقة وما يبدو ظاهريا، وعناصر التعليم الفعال واسس الاخلاق. وبما ان كتاب الجمهورية يغطي العديد من القضايا، فهو يمكن قرائته بطرق مختلفة: كرسائل في النظرية السياسية وتطبيقاتها، كمرشد بيداغوجي تربوي، كدفاع عن السلوك الاخلاقي. ومع اننا سنلقي الضوء على كل من تلك الخصائص، لكن تركيزنا الرئيسي اللاحق سيكون على القضايا الميتافيزيقية والابستيمولوجية الاساسية، وعلى الاسئلة الجوهرية حول منْ نحن وماهي الحقيقة وكيف سنعرف كل ذلك. هذا الحوار ككل يدعونا للمشاركة مع افلاطون في رؤيته عن مكاننا ضمن البناء الاصلي للحقيقة.

ماهي العدالة؟

الكتاب الاول من الجمهورية يظهر على شكل حوار سقراطي حول طبيعة العدالة. وكما هو دائما، الهدف من النقاش هو اكتشاف الطبيعة الحقيقية للموضوع قيد الدرس، لكن العملية تستلزم اقتراحات، انتقادات، ورفضا للعديد من المحاولات غير الكافية في تعريف ماهية العدالة الحقة.

سيفالس (cephalus) المسن والثري يقترح ان العدالة لا تستلزم اكثر من قول الصدق واعادة الديون الى اصحابها. لكن سقراط يشير الى انه في ظروف معينة، يؤدي اتّباع هذه القواعد البسيطة بدون استثناء الى نتائج كارثية (الجمهورية 331c). إعادة السلاح المستعار الى صديق مختل الذهن مثلا، لايبدو مثالا على السلوك العادل. ان عرض مثال مضاد من هذا النوع يبيّن ان التعريف المقترح للعدالة هو غير صحيح، طالما لا يتلائم تطبيقه مع فكرتنا المألوفة عن العدالة.

في محاولة لتجنب مثل هذه الصعوبة، يُجري بولمارشس polemarchus تعديلا للتعريف باقتراح ان العدالة تعني "إعطاء كل فرد ما يعود له". التعريف الجديد يصحح الانطباع الراسخ لدينا في ان العدالة هي السعي الدائم لمساعدة الصديق والإضرار بالعدو. هذا يتجنب المثال المضاد السابق، طالما ان السلوك العادل في رفض اعادة السلاح المستعار لصاحبه سينفع ذلك الصديق. لكن سقراط يشير الى ان التعامل الخشن مع اعدائنا يقود فقط لجعلهم غير عادلين اكثر مما هم فيه سلفا (الجمهورية 335D ). اذا كنا شاهدنا في حوار phaedo، ان المتضادات تستبعد بعضها البعض، فان انتاج اللاعدالة سوف لن يكون ابدا عنصرا ضمن سمة العدالة الحقيقية، لذا فان هذا التعريف ايضا يجب ان يكون خاطئا.

امتياز القوة

في هذه المرحلة من الحوار، يأتي افلاطون بـ (ثراسيماشوس) السوفسطائي، كقصصي آخر. يشير ثراسيماشوس الى اننا نعتبر العدالة كميزة للقوي، اولئك الذين في موقع القوة ببساطة يستخدمون قوتهم لفرض ما يجب ان يكون صحيحا. هذا ايضا يعبر عن رؤية شائعة (وان كانت نوعا ما متشائمة) عن حقائق التنظيم الاجتماعي. ولكن بالطبع سقراط لديه افكار اخرى. لانه يرى، اذا كانت الجهة الحاكمة تشرع بطريقة خاطئة ضد مصلحتها الخاصة، فان العدالة ستتطلب من باقي الناس اداء ما يبدو عملا متناقضا وذلك في انجاز ما طُلب منهم وايضا عمل ما هو الأحسن لهم.

وما هو اكثر اهمية ان سقراط يجادل بان احسن حاكم يجب دائما ان يكون شخص ما يعرف كيف يحكم، يفهم الحكم كحرفة. لكن بما ان الحرف من اي نوع تهدف لانجاز هدف خارجي، فان الممارسين الجيدين من كل حرفة دائما يتصرفون لأجل ذلك الهدف، وليس لمصلحتهم الخاصة وحدها. وهكذا فان الحكام الجيدين هم كالرعاة الجيدين، يجب ان يحاولوا عمل الافضل لاولئك الذين وثقوا بهم بدلا من البحث عن رفاهيتهم الخاصة (الجمهورية e342).

ونظرا لقوة الجدال السقراطي اضطر ثراسيماشوس للرد بغضب شديد لكي يحوّل تركيز النقاش كليا. اذا كان سقراط محقا حول طبيعة العدالة، معنى ذلك ان تكريس حياة الفرد نحو اللّاعدالة سيكون لمصلحته اكثر مما لو ركز على العدالة. بالتأكيد كل واحد يفضل الانتفاع من تبنّي سلوك اللاعدالة ضد الآخرين بدلا من ان يكون ضحية لسلوكهم غير العادل (إعمل ضد الآخرين قبل ان يعملوا ضدك).

وهكذا، طبقا لثراسيماشوس ان اللاعدالة هي افضل من العدالة. هنا ستأتي بعض الاجوبة التمهيدية الى الذهن فورا: المكافئات الفردية المتحصلة من اداء العمل جيدا هي بشكل عام مختلفة عن غاياتها الباطنية، الناس العادلون يُعتبرون حقا متفوقون على الناس غير العادلين في الذكاء والشخصية، كل مجتمع يعتقد ان العدالة (كما هي متصورة في المجتمع) ملزمة اخلاقيا، وان العدالة هي الفضيلة الملائمة للروح الانسانية. ولكن اذا كان سقراط ذاته مقتنعا بالإجابات من هذا النوع، فان افلاطون الكاتب الفيلسوف لم يكن كذلك. يجب ان يكون هناك جواب يُشتق جوهريا من طبيعة الواقع.

هل العدالة أفضل من اللّاعدالة؟

عندما يلتزم ثراسيماشوس الصمت، تستمر الشخصيات الاخرى في الحوار في متابعة السؤال المركزي: ما هي العدالة، كيف نستطيع تحقيقها، وما هي قيمتها؟ لايتفق جميع الناس على وجوب الدفاع عن العدالة كقيمة بذاتها وليس لأجل ما ينتج عنها من فوائد خارجية.

يلجأ غلاكون الى استخدام مثال قوي من قصة كايغ، الراعي الذي اكتشف خاتما يجعله غير مرئي للناس مما دفعه فورا لممارسة حياة الجريمة مع إعفاء تام من العقوبة. المسألة هي ان الكائن البشري لو حصلت له هذه الفرصة دون الإمساك به وبدون تحمّل العقوبة او ضياع السمعة سوف يختار بالطبع حياة اللاعدالة لكي يحقق مصالحه الخاصة.

ادمينتس يضيّق النقاش الى مدى أبعد عبر الاشارة الى ان المنافع الفردية بالحصول على السمعة الجيدة هي عادة ما تُكتسب من جانب اي شخص مجرد ظهوره يتصرف بعدالة سواء كان ذلك الفرد يقوم بذلك حقا ام لم يقم (الجمهورية 363a). هذا معناه امكانية انجاز اعظم فائدة ممكنة من خلال التصرف بلاعدالة مع المحافظة على المظهر الخارجي للعدالة. لكي يبيّن افلاطون ان العدالة دائما تنطوي على قيمة بذاتها، يجب عليه ان يثبت ان الحياة حين تُمارس العدالة لذاتها هي أسمى من الحياة حين تُمارس العدالة لنتائجها.

ثراسماتس، غالكون وادمينتس انشغلوا بقضية اساسية تشكل الاساس في اي جهد لتحسين السلوك الانساني عبر اللجوء الى مبادئ الفلسفة الاخلاقية. اذا كان ما يتوجب ان افعله اخلاقيا (في بعض الظروف) مختلفا عما يمكنني اختياره لمصلحتي الخاصة، عندئذ لماذا يجب ان اكون اخلاقيا؟ افلاطون كتب الباقي من الجمهورية في محاولة لإعطاء جواب مقنع وكافي لهذا السؤال.

بعد الكتاب الاول، انتشر الحوار بالكامل عبر ايجاد تشابه موسع بين عدالة الكائن البشري وعدالة كامل مجتمع المدينة - الدولة. بما ان العناصر الحاسمة للعدالة ستكون اسهل ملاحظتها حين تكون على نطاق اوسع(الجمهورية 369a)، لذا بدأ افلاطون بتحليلات مفصلة عن تكوين وبناء وتنظيم الدولة المثالية قبل تطبيق نتائجه على وصف الحياة الفردية.

لماذا نكوّن المجتمع؟

تصوّر افلاطون المجتمعات في ما قبل التاريخ وجادل بانها تكونت لهدف معين. لم يكن الكائن البشري مكتف ذاتيا، لا احد يعمل بمفرده يستطيع اكتساب جميع ضروريات الحياة الاساسية. لكي نحل هذه الصعوبة لابد ان نجتمع مع بعضنا في جماعات لتحقيق متبادل لأهدافنا المشتركة. هذه العملية ستنجح لاننا نستطيع ان نعمل بفاعلية اكبر اذا كان كل واحد منا يتخصص في ممارسة مهنة معينة: احد يصنع كل الاحذية، آخر يزرع كل المحاصيل، ثالث يقوم بكل النجارة وهكذا. افلاطون يؤمن بان فصل الوظائف والتخصص في العمل هما اساس بناء مجتمع جيد.

ان النتيجة من هذه الرغبة هي مجتمع مركب من عدة افراد منظّمين في طبقات متميزة(اصحاب الملابس، الفلاحين، البنائين وغيرهم) كل منهم له دوره في توفير بعض عناصر السلعة المشتركة. لكن العمليات المنسجمة للمجتمع ككل سوف تتطلب بعض الخدمات الاضافية الضرورية للتنظيم الاجتماعي ذاته، اي الحكم في النزاعات بين الاعضاء، والدفاع عن المدينة ضد الهجمات الخارجية، لذلك ولكي يتقدم بمبدأ التخصص خطوة اخرى، اقترح افلاطون تأسيس طبقة اضافية من المواطنين، طبقة الحراس الذين هم مسؤولون عن ادارة المجتمع ذاته.

في الحقيقة، يؤمن افلاطون ان الحياة الاجتماعية الفعالة تتطلب نوعين من الحراس: جنود وظيفتهم الدفاع عن الدولة ضد الاعداء الخارجيين وفرض القوانين، وهناك الحكام الذين يحلّون الخلافات بين المواطنين ويتخذون قرارات بشأن السياسة العامة. الحراس جماعيا هم افراد مهمتهم الخاصة هي مهمة الحكومة ذاتها.

تدريب الحرّاس

لكي ينجزوا وظائفهم الصحيحة، هؤلاء الافراد يجب ان يكونوا اناسا متميزين. في الحقيقة اشار افلاطون مبكرا الى ان احدى اهم خصائص الحراس الواضحة ستكون ميلهم المزاجي نحو التفكير الفلسفي.ان الفيلسوف يتفوق على الآخرين في حسن التحقيق في الاسئلة الخطيرة حول حياة الانسان والحكم حول ما هو الحقيقي والأحسن. ولكن كيف يمكن تعزيز هذا النوع من الصفات الفردية لدى عدد مناسب من المواطنين؟(الجمهورية 376d).

الجواب كما اعتقد افلاطون يكمن في الوثوق بقيمة التعليم الجيد. (نتذكر ان افلاطون ادار مدرسته الخاصة في اثينا). خطته في التعليم الابتدائي للحراس بالدولة المثالية تظهر في الكتاب الثالث. اهتمامه المركزي هو التأكيد على تحقيق التوازن الملائم بين العديد من المكونات المختلفة - التدريب الفيزيائي والآداء الموسيقي الى جانب التنمية الفكرية الأساسية.

الموقف من الادب

احدى الخصائص المتميزة لهذه الطريقة في تربية الاطفال هي إصرار افلاطون على منع صارم لجميع المواد الادبية خاصة الشعر والدراما. هو جادل بان الشعراء ينجذبون الى الجزء الاسفل من الروح عبر تقليدهم للميول غير العادلة، هم يشجعوننا على اطلاق المشاعر غير الشريفة حين نتعاطف مع الشخصيات التي نسمع عنها وبهذا فان الشعر يجعلنا غير عادلين. الاستيعاب المبكر للاعمال القصصية طبقا لأفلاطون يمكنه التقليل من قدرة الافراد على عمل أحكام دقيقة بشأن مسائل الحقيقة وان الإفراط في المشاركة بالدراما ربما يشجع بعض الناس على تقليد السلوك السيء للأبطال الاشرار(الجمهورية 395c). ان الاسوأ في كل ذلك هو ان الاهتمام المفرط في السياقات القصصية ربما يقود الى نوع من الخداع الذاتي فيه يكون الافراد جاهلين في الحقيقة المتعلقة بطبيعتهم الخاصة ككائنات بشرية. وهكذا، حسب رؤية افلاطون من المهم جدا للمجتمع ممارسة رقابة صارمة على محتوى كل شيء يقرأه او يسمعه او يراه الاطفال. تجدر الاشارة ان ارسطو عرض افكارا مختلفة جدا حول هذا الموضوع.

ان التدريب من هذا النوع قُصد به فقط لاولئك الاطفال الذين سيصبحون في النهاية حراسا للدولة. ادائهم في هذا المستوى من التعليم سيقرر ما اذا كانوا مؤهلين ام غير مؤهلين للقيام بتلك المهمة، وكذلك (اذا كانوا مؤهلين) تحديد منْ منهم يستحق ان يكون حاكما ومنْ يستحق ان يكون جنديا. يجب على المجتمع تصميم نظامه التعليمي كوسيلة للتمييز بين مواطني المستقبل الذين سوف تختلف وظائفهم وايضا لتوفير التدريب الملائم لقدرات كل واحد منهم.

تقسيم الدولة

ان مبدا التخصص هذا يقود الى مجتمع طبقي. افلاطون اعتقد ان الدولة المثالية تضم اعضاءا من ثلاث طبقات متميزة: الحكام والجنود والناس. اذا كان افلاطون ذكر علناً ان العضوية في طبقة الحراس يجب ان ترتكز فقط على امتلاك مهارات مناسبة، فهو ايضا افترض ان مستقبل الحراس سيكون في الاساس من أحفاد اولئك الذين يشغلون حاليا مواقع الشرف. اذا كان المواطنون يعبّرون عن عدم قناعة بالادوار التي اسندت لهم، هو اقترح بان يقال لهم "الكذب المفيد"باعتبار ان الناس (كما السلع المادية من ذهب وفضة وبرونز) يحوزون على مختلف الخصائص الطبيعية التي تجعل كل واحد منهم منسجما مع وظيفة معينة ضمن عملية المجتمع ككل(الجمهورية 415 A). لاحظ ان هذه الاسطورة يمكن استخدامها كسيف ذي حدين. انها بالتأكيد يمكن استخدامها كوسيلة للسيطرة الاجتماعية، عبر تشجيع الناس العاديين على قبول موقعهم في قعر السلم الاجتماعي وخضوعهم لحكم الطبقات العليا.

لكن افلاطون ايضا يرى ان الاسطورة تبرر قيود صارمة على حياة الحراس: بما انهم وُهبوا سلفا طبائع متفوقة، فهم لا حاجة لهم بالثروة او المكافئات الخارجية. في الحقيقة، يؤمن افلاطون ان الحراس يجب ان لا يمتلكوا ملكية خاصة، يجب ان يعيشوا ويأكلوا سوية على حساب الدولة ويجب ان لا يستلموا اي رواتب اكثر مما هو ضروري لتلبية الحاجات الاساسية. في ظل هذا النظام، لا احد لديه الحافز للرشوة لأجل الحصول على موقع قيادي، واولئك الذين اختيروا ليكونوا حراسا سيعملون فقط من اجل رفاهية الدولة التي فيها يكون جميع المواطنين افضل حالا.

بعد ان طور افلاطون وصفا عاما لهيكل المجتمع المثالي اكّد بان الوظائف الملائمة التي تقوم بها مختلف الطبقات، والتي تعمل مجتمعة نحو الخير العام، توفر توضيحا ملائما للحاجة لتطوير فضائل او نوعيات اجتماعية هامة.

1- بما ان الحكام مسؤولين عن اتخاذ قرارات لحكم كامل المدينة، هم يجب ان تكون لديهم فضيلة الحكمة والقدرة على فهم الواقع وعمل احكام صائبة.

2- الجنود مسؤولون عن الدفاع عن المدينة ضد الهجمات الخارجية والاعداء الداخليين، وهم يحتاجون الى فضيلة الشجاعة والرغبة في تنفيذ واجباتهم تجاه الاخطار دون اعتبار المخاطر الفردية.

3- باقي الناس في المدينة يجب ان يخضعوا لقادتهم بدلا من السير وراء مصالحهم الخاصة، لذا يجب ان يعكسوا فضيلة الاعتدال وخضوع الرغبات الفردية الى اهداف عليا.

عندما تؤدي اي من هذه الطبقات دورها بشكل ملائم ولا تستحوذ على وظائف الطبقات الاخرى فان كامل المدينة حسب افلاطون ستعمل بانسيابية وانسجام كاملين وهذه هي العدالة الحقيقية(الجمهورية 433E).

لهذا نستطيع فهم جميع الفضائل عبر النظر الى الكيفية التي تتجسد بها في تنظيم المدينة المثالية:

الحكام – قرارات حكيمة

الجنود – افعال شجاعة

الفلاحون والتجار والناس الاخرين – قرارات معتدلة

العدالة ذاتها ليست مسؤولية حصرية لأي من طبقات المواطنين وانما هي تبرز من العلاقات المترابطة المنسجمة لكل مكون من المجتمع مع المكونات الاخرى. سنرى الان كيف ان افلاطون طبق هذا التصور للفضائل على حياة الانسان الفرد.

الفضائل في الروح الانسانية

لنتذكر ان الخطة الاساسية للجمهورية هي رسم تشابه منهجي بين عملية المجتمع ككل وحياة اي انسان فيه كفرد. لذا فان افلاطون افترض ان الناس يعرضون نفس الخصائص، ويؤدون نفس الوظائف، ويجسدون نفس الفضائل التي تؤديها الدولة. تطبيق التشابه بهذه الطريقة يفترض ان اي واحد في المجتمع هو، كالدولة، كلّ معقد صُنع من عدة اجزاء متميزة، كل جزء له دوره الخاص. لكن افلاطون جادل بان هناك ما يكفي من الدليل حول هذا في حياتنا اليومية. عندما تواجهنا عدة خيارات حول ما يجب ان نعمل، نشعر ان الرغبات المتضادة تسحبنا في اتجاهات مختلفة، وان التوضيح الطبيعي لهذه الظاهرة هو ان نميز بين عناصر متميزة في ذواتنا(الجمهورية 436B).

وهكذا يحصل التشابه. الى جانب الجسم المادي الذي يتطابق مع الارض والأبنية والمصادر المادية الاخرى، يؤكد افلاطون ان كل انسان ينطوي على ثلاث ارواح تتطابق مع ثلاث طبقات من المواطنين داخل الدولة، كل واحدة من تلك الارواح تساهم بطريقتها الخاصة في نجاح الفرد ككل.

1- الروح العاقلة (الذهن او التفكير) هي الجزء المفكر في كل واحد منّا، وهو الذي يميز الحقيقي من المظهر، يحكم على ما هو حقيقي وما هو زائف، ويعمل قرارات حكيمة يمكن بموجبها ان تُعاش الحياة الانسانية بشكل اكثر ملائمة.

2- الروح الروحانية (الرغبة او الخيار الواعي)، هي الجزء النشط، ووظيفته تنفيذ اوامر العقل في الحياة العملية، والتنفيذ الشجاع لكل ما يراه الفكر هو الافضل.

اخيرا، الروح الشهوية (العواطف او النزوات) هي ذلك الجزء الموجود فينا والذي يرغب ويشعر بعدة اشياء، معظمها يؤجل في مواجهة السعي العقلاني اذا اريد لنا انجاز مقدار جيد من الانضباط الذاتي.

وفق رؤية افلاطون ان الانسان يقال عادل عندما تؤدي الارواح الثلاثة وظائفها الصحيحة بانسجام مع بعضها لأجل خير الانسان ككل.

الروح العاقلة (التفكير) = الحكمة

الروح الروحانية (الارادة) = الشجاعة

الروح الشهوية (الشعور) = الاعتدال

وكما في الدولة المنظّمة جيدا، تنشأ عدالة الانسان الفرد فقط من العلاقات المتبادلة بين مكوناته المتباينة والمنفصلة (الجمهورية 443d).

ان توضيح افلاطون للتقسيم الثلاثي للذات جسّد تأثيرا هائلا على فلسفة الطبيعة الانسانية في الثقافة الغربية. رغم ان القليل من الفلاسفة دعموا افتراضه للتقسيم الثلاثي للروح، لكننا نجد تقريبا كل شخص يعترف بالتمايز في وظائف التفكير والارادة والشعور. اي رؤية متكاملة للحياة الانسانية تتطلب بعض التوضيح للكيفية التي ندمج بها التفكير والارادة والرغبة في وجودنا الكلي.

ان نظرية افلاطون في طبيعة الانسان توفر الاساس لجواب آخر لسؤال عن سبب افضلية العدالة على اللاعدالة. وفق الرؤية المعروضة هنا، العدالة الحقيقية هي نوع من الصحة الجيدة يتم الحصول عليها من خلال الجهود التعاونية المنسجمة للارواح الثلاث. في الفرد غير العادل تكون الاجزاء المتباينة في حالة من الاضطراب الدائم، تتواجد مع بعضها ضمن شخصية غير صحية، غير متكاملة، تعمل بشكل سيء. افلاطون طور هذه الفكرة بتفاصيل اكثر في الجزء الاخير من الجمهورية.

استنتاج وتعليق

في نهاية الجزء الرابع، يحاول افلاطون توضيح ان عدالة الفرد هي مرآة للعدالة السياسية. هو يرى ان الروح لدى كل فرد تتكون من ثلاثة اجزاء تتقابل مع ثلاث طبقات في المجتمع. هناك الجزء العقلي من الروح الذي يبحث عن الحقيقة وهو مسؤول عن ميولنا الفلسفية. وهناك الجزء الروحاني والذي يرغب بالشرف وهو مسؤول عن شعورنا بالغضب والاستياء. وهناك الجزء الشهواني والذي يرغب بجميع انواع الاشياء، وفي مقدمتها النقود لأنها تُستعمل لإشباع جميع الرغبات الاساسية. ان الفرد العادل يمكن تعريفه بشكل مماثل للمجتمع العادل، الأجزاء الثلاثة من روحه تنجز علاقات القوة والنفوذ الضرورية لكل جزء. في الفرد العادل، يكون الجزء العقلاني من الروح هو الذي يحكم، اما الجزء الروحاني من الروح فهو يساعد هذا الجزء الحاكم، اما الجزء الشهواني فهو يخضع ويتبع ما تمليه قيادة العقل. بتعبير آخر في الفرد العادل تهدف كامل الروح الى انجاز رغبات الجزء العقلي مثلما في المجتمع العادل تهدف كامل الجماعة الى انجاز رغبات الحاكم.

التوازي بين المجتمع العادل والفرد العادل يذهب اكثر عمقا عندما تخضع كل واحدة من الطبقات الثلاث في المجتمع لسيطرة احد الاجزاء الثلاثة من الروح. المنتجون يخضعون لسيطرة شهواتهم تجاه النقود والمتعة والكماليات. المحاربون يخضعون لسيطرة ارواحهم التي تجعلهم شجعانا. الحكام تسيطر عليهم ملكاتهم العقلية ويكافحون لأجل الحكمة. الفلاسفة يشكلون الطبقة الوحيدة من الناس الذين يحوزون على المعرفة وهم الأكثر عدالة. روحهم تسعى، اكثر من غيرهم لإنجاز رغبات الجزء العقلي. يستمر افلاطون في الجدال بانه مع ان كل من الانواع الرئيسية الثلاثة(حب النقود، وحب الشرف، وحب الحقيقة) لهم تصوراتهم للسرور والحياة الخيرة، لكن الفيلسوف وحده يستطيع الحكم لأنه مارس جميع الانواع الثلاثة من السرور. الآخرون يجب ان يقبلوا حكم الفيلسوف، ويستنتج بان السرور المرتبط بالفيلسوف هو السرور الأعظم وبهذا فان الحياة العادلة هي ايضا الحياة الاكثر سرورا. هو يكشف بان سرور الفيلسوف هو وحده السرور الحقيقي، لأن كل المسرات الاخرى هي ليست اكثر من منع او إيقاف الألم.

ان نموذج افلاطون في العدالة تعرّض للعديد من الانتقادات يمكن تلخيصها بالآتي:

1- ان نظرية افلاطون في العدالة تخلو من الاهمية الخاصة للفرد. لم يعد الفرد ذاتا منعزلة وانما جزءا من النظام ككل الذي هو الدولة المثالية. ان الفرد ليس هو الكل وان افلاطون لا يستطيع اثبات ان الكل هو الدولة. لم يترك افلاطون مجالا للفرد للتفكير بهذه الطريقة. الفرد في الدولة المثالية ليس له هوية خاصة وانما هو مندمج كليا بالدولة.

2- مفهوم افلاطون عن العدالة يواجه عقبة اخرى. ان طبقة الحراس التي وُهبت الحكمة سوف تسيطر على كامل المجتمع. من المألوف جدا ان الفرد او الطبقة التي تسيطر على الشؤون الادارية للدولة سوف تؤسس بالنهاية هيمنة على المجتمع بأكمله.

3- الانسجام يمكن ان يحصل في المجتمع السياسي عندما يمارس جميع الافراد من مختلف الطبقات الانضباط الذاتي ويتبعون واجباتهم الخاصة. بدون سيطرة ذاتية لا يمكن تحقيق العدالة. الانضباط الذاتي لدى افلاطون هو مبدأ اخلاقي وليس قانوني. عندما يفشل الناس في تطبيقه سينتج عن ذلك مشاكل. ان الترتيبات القانونية تُعد امرا ضروريا. يقول باركر "ان العدالة التي يتحدث عنها افلاطون هي ليست عدالة حقيقية ابدا... انها تكمن في الروح، وهي أقل من اي قانون. القانون شيء والاخلاق شيء آخر. القانون متعلق بأحكام خارجية بينما الاخلاق تتعلق بافكار تكمن خلف الأحكام.. افلاطون أضاع الفرق والتبست عليه الحدود الفاصلة بين الواجب الاخلاقي والالتزام القانوني... بدون قوة قانونية، سوف لن يجد الواجب الاخلاقي طريقه للنجاح".

4- هناك من النقاد من ذهب بعيدا في اعتبار افلاطون معاديا للديمقراطية كونه مهد الطريق للاستبداد والفاشية وأجاز "الكذب النبيل"، وهاجم الادباء والشعراء مطالبا بنفيهم خارج البلاد.

......................................
المصادر
1- Plato: The state and the soul, philosophy pages, Britannica
2- Plato’s Theories: Theory of justice, Education and communism
3- The Republic plato,SparkNotes,Sparknotes philosophy study guides
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق