q

التفكير هو خطوات متخيَّلة مستمرة تدور داخل رأس الإنسان، للبحث عن مخرجات وحلول لعقد وإشكاليات ربما تكون عصيبة من جهة، وهو أيضا من جهة أخرى نزوع مستدام لتطوير الحياة، في البداية يكون التفكير عبارة عن كلمات لا أكثر، يتم تداولها داخل عقل الإنسان في دماغه، ثم ما تلب أن تُكتَب على الورق أو شاشة الحاسوب، وربما تُقال في حوار أو محاضرة، وقد يحتفظ بها المفكر في مذكرة خاصة به، على أمل طرحها على من يهمه الأمر.

التفكير ليس أمرا سهلا، إنه المفتاح الوحيد لحالات الاستعصاء التي تحيل الحياة الى نمطية قاتلة، فالفكر إذا لم يتم تجديده باستمرار، فإن حياة الإنسان والمجتمع تبقى تراوح في مكان واحد، إذاً نحن أمام حاجة لا مناص منها للتفكير والمفكر، مع أننا نأخذ بالرأي الذي يؤكد على أن التفكير يعد من أصعب الأعمال التي قد يأخذ منها الإنسان مهنة له، لذلك على سبيل المثال شرّعت والأمم الدول المتقدمة التي تحترم الفكر قانون الحماية الفكرية، لمعرفتها أن الحياة لا تتقدم قيد أنملة من دون الفكر والمفكرين، فضلا عن الاعتراف بأن صناعة الفكر ليست عملية سهلة، ولا هي متاحة لكل من يرغب بها.

فالتفكير بحسب هنري فورد يعدّ (أصعب الأعمال وهذا هو السبب في أن القليلين هم الذين يختارونه كعمل)، ذلك أن الأفعال والأعمال صغيرها وكبيرها، بمختلف أحجامها وأنواعها، لا يمكن أن تتم إلا من خلال التفكير المسبق، وإذا حدث عكس ذلك، فلا قيمة للفعل أو العمل كونه سيكون تحت سطوة العبثية والارتجال ومن ثم الفشل ، لهذا السبب يرى رالف والدوايمدسون بأن (التفكير هو أصل كل فعل).

وهكذا يبقى الإنسان في حاجة مستمرة لتحديث الفكر، فيدرس المختصون إمكانية ذلك عبر طرق وسبل شتى، ويتساءل آخرون كيف يمكن أن يقوم الفكر بهذه العملية المركبة؟، كذلك ثمة من يرى أن الأمم لها بيئات وقواعد فكرية راسخة تأسست عليها منظومات وسنن وعلامات من الصعب تهديمها بشكل كلي، ولكن بالإمكان ترميم الفكر وتخليصه من النمطية والثبات على نوع فكري لا يقبل التجديد أو التغيير، شريطة أن يتوافر نزوع مستمر ورغبة مستدامة للتغيير الذي يمكن إحداثه من خلال ترميم الفكر، خصوصا أن تطوير الحياة لا يمكن أن يتم ما لم يكن العقل قادرا على إنتاج فكري مختلف أو بالأحرى متجدد، لأن الحياة لا يمكن أن تخضع للثبات الكلي، فيدل ذلك على لزوم التغيير.

فبحسب ايفرت داير كسين: (الحياة ليست ثابتة، وأولئك الذين لا يستطيعون تغيير عقولهم هم سكان المقابر والمجانين والموتى)، هذا بالضبط ما يعنيه العجز عن ترميم الفكر وتغييره، ذلك أن العقل عندما يكف عن التفكير، فإنه والحال هذه يكون ميتا لا تأثر له ولا قدرة على تغيير المجتمع والدفع به نحو تغيير مهم في الرؤية والتعامل والتعاطي والإدامة والابتكار ورسم قواعد ومبادئ غير قارّة ولا مصابة بالجمود، فهي يجب أن تكون قواعد ذات مطاطية أو مرونة تسمح باحتواء الفكر المضاد وتوظيفه كعامل محفّز لترميم الفكري الذاتي للأمة أو المجتمع.

ومن أهم خطوات الترميم الفكري أن يكون العقل مؤمنا بالحرية، فلا فائدة في فكر لا يحترم التحرر، ولا قدرة على الفكر المكبّل بقيود الظلام أن ينقذ من المجتمع من سكونه وسباته وربما تراجعه، فهناك حاجة كبيرة الى الأخذ والرد مع الآخر، حتى لو كان ذا مضامير مناقضة لأفكارنا، وقد يكون هذا الشرط هو الدافع الرئيس الذي يجعل المفكرين الناجحين يطالبون دائما بعدم اللجوء الى العزلة او الانغلاق الكلي، ربما هناك حاجة الى الاحتراز ولك هذا لا يعني العزلة والخوف من الفكر الأخر، فالترميم الفكري وعملية التغيير برمتها، لا يمكن أن تتم ما لم يكن هناك تشاور وتداخل وتلاقي فيما بين التجارب الفكرية، وأخذ المفيد منها ونبذ المضِّر.

فلا أهمية للتمسك بفكرنا وآرائنا الخاصة بصورة حدّية، لابد أن يكون هناك هامش للحركة والأخذ والرد، حتى نتجنب فشل الرأي وشلل الفكر، وكي نتجنب عزلة حتمية قد يفرضها علينا الآخرون بسبب تخوفهم منا، ومن تزمتنا الفكري، إذا كنا من النوع الذي يقصي الفكر الآخر من دون تمحيص، يقول واتسو تاوتيه كينج في هذا المضمار: (إن الشخص الذي يبالغ في التمسك بآرائه لا يجد من يتفق معه)، فلا توجد ضرورة لوضع حواجز مسبقة إزاء الترميم الفكري، فثمة وشائج تربط بين الأفكار ينبغي فهمها والانطلاق منها نحو مخرجات قادرة على تحريك عجلة الحياة والأفراد الى أمام بديمومة واستمرار.

يعود الأمر الى العقل، والبيئة، والمفكر أيضا، هذه الأركان الثلاثة هي التي تحسم قضية ترميم الفكر وتجعل منه أقرب الى الحداثة، وتدفع به نحو ضفة التحرر، خصوصا إذا كانت هناك تهيئة مسبقة ومخطط لها، فالعقل الذي صنع المعجزات، والذي ميّز (الكائن الناطق)، عن غيره من الكائنات، هو صاحب القدح المعلّى في التغيير حض الإنسان بالسير الحثيث بخطوات واثقة محسوب نحو ضفة التغيير المضمون، وهذا ما أكّده جون مولتون في تعبيره المعروف الذي قال فيه: (إن العقل قادر على أن يصنع من الجحيم نعيما ويصنع من النعيم جحيما).

هكذا نكون قد وصلنا الى فهم لمهمة الفكر، والمفكر، والبيئة التي تحتضن الأمة، وما علينا سوى حماية حرية الفكر بكل السبل، وبتقديم أكبر التضحيات، مع أهمية حشد طاقات المفكرين لمواصلة عملية ترميم الفكر، كي يكون في الاتجاه الذي ينتهي الى مخرجات مهيّأة لإحداث التغيير اللازم، وهو أمر ممكن، خصوصا إذا تثبتنا من حالات الاستعداد العلمي لتأكيد النتائج المرسومة.

اضف تعليق


التعليقات

عبد الرضا السلامي
حلة
ما أن رأيت العنوان حتى شعرت بأنني احتاج لقراءة هذا الموضوع، فالفكر عندنا في واد ونحن في واد آخر، لا يجمع بيننا وبين الفكر شيء فقط الكس والخمول واللهو.. يُضاف الى فشل الحكومة فيضيع لفكر وتبقى حياتنا ملبدة بغيوم الغباء.. نرجو المجيء بفكر ينقلنا الى واقع غير الذي نعيشه الآ،.2017-04-11