q

ثلاثة محاور تشترك في موضوعنا هذا، الأول المجتمع، الثاني الثقافة، والثالث المثقف، هل هناك قدرة للمثقف على صناعة المجتمع المتمدن، وما دور الثقافة في هذا المجال، كذلك ما دور المجتمع في إنجاز هذا الهدف؟، في البداية نطلع على تعريف كل محور من هذه الثلاثية التي تتشابك فيما بينها وتؤثر في بعضها بعض.

فالمجتمع هو عبارة عن مجموعة من الناس التي تشكل النظام والتي تشكل شبكة العلاقات بين الناس، المعنى العادي للمجتمع يشير إلى مجموعة من الناس تعيش سوية في شكل منظّم وضمن جماعة منظمة، والمجتمعات أساس ترتكز عليه دراسة علوم الاجتماعيات، وهو مجموعة من الأفراد تعيش في موقع معين تربط فيما بينها علاقات ثقافية واجتماعية متجانسة.

أما الثقافة فهي كلمة قديمة وعريقة في العربية، فهي تعني صقل النفس والمنطق، وفي المعجم "وثقف نفسه" أي صار حاذقاً خفيفاً فطناً، وثقفه تثقيفا أي سواه، وثقف الرمح، تعني سواه وقومه، والمثقف في اللغة هو القلم المبري، وقد اشتقت هذه الكلمة منه حيث أن المثقف يقوم نفسه بتعلم أمور جديدة كما هو حال القلم عندما يتم بريه، ولطالما استعملت الثقافة في عصرنا الحديث هذا للدلالة على الرقي الفكري والأدبي والاجتماعي.

وحين نتطرق الى المثقف بحسب المثقفين أنفسهم أو أصحاب الكلمة بشكل عام، فهو حامل العقل الراجح والرأي الناجع، الذي يمكنه أن يطور حياته الفردية من خلال عقله المتنور وأفكاره المتوقدة، ولا شك أنه يؤثر في أشخاص آخرين من المجتمع، وباجتماع عدد من المثقفين يمكن أن يتشكل تيار ثقافي أو رأي قد يناسب المجتمع في حال كونه مناسبا ومتطابقا مع أفكار المجتمع وأساسياته، فيكون هنا دور المثقف فاعلا وربما يُسهم الى حد بعيد في صناعة المجتمع المثقف أو المتحضّر أو المتمدن، فهذه المفاهيم متقاربة من بعضها من حيث المعنى والهدف.

وبعد الإطلاع على مفاهيم المفردات الركائز التي يمكنها أن تشترك في تطوير المجتمع، لنأت الى الأسباب التي تمنع المجتمع من الانتقال الى المدنية ومغادرة كل ظواهر ومؤشرات المجتمع المتخلف، ومنها مثلا، التطرف، والتعصّب، والانغلاق، ومن ثم العنف، ومنع وصول العلم الى أفراد المجتمع لأسباب تعود الى اعتماد قيم أو عادات بالية، وعندما نبحث في الأسباب، فإننا سوف نجد تأثيرات معينة تسهم بطريقة أو أخرى في تعويق تمدّن المجتمع.

بين التطور المادي والفكري

هل المثقف من صنع الثقافة أم العكس، لا شك أن الثقافة تؤثر في الأفراد، ولكن ينبغي أن يكون المثقف جزء من الثقافة، ومغيّر للمرتكزات المتخلفة فيها، كما أن ثقافة الإنسان وأفكاره تتأثّر بوسائل الحياة المدنيّة التي يستخدمها في الإنتاج وتقديم الخدمات وتتأثّر حياته بالتطوّر الصناعي والعلمي الكبير الّذي وصلته البشرية، بمعنى أن المادة تنعكس على طبيعة تفكير المثقف والمجتمع عموما وتؤثر في هذا السلوك تطورا أو تراجعا.

لقد غيّرت هذه الوسائل والمصانع أسلوب الحياة والعلاقات الاجتماعية بين الناس في المجتمع، فأثّرت في تكوين الشخصية وطريقة تفكير الإنسان، فكان لها تأثير سلبي على الحياة الاجتماعية، كما كان لها تأثير ايجابي في توفير الرّاحة والتقدّم للإنسان، كما إنّ التطّور الصناعي، وطريقة الحياة الناتجة عنه، أضرّت بالعلاقات الاجتماعية، فعلاقات الجوار والقرابة لم تكن تلك العلاقات المتينة، فقد نجد عائلة تعيش في شقّة أو بيت سنين عديدة، ولم تتكوّن لها علاقة صداقة أو جوار مع جيرانها، ولابد أن يكون هناك خلل اجتماعي في هذا الجانب.

إن التطور المادي إذا لم يرافقه تطور فكري سوف ينعكس ذلك على حالة او درجة التمدن التي يعيشها المجتمع، لقد كان الجيران والأقرباء فيما مضى يتزاورون، ويقضون ساعات طويلة في الحديث، فتتفاعل مشاعرهم، ويتواصل بعضهم مع بعض، وبعد دخول التلفزيون الى البيوت، أصبح الناس قليلو الاختلاط والتزاور، فإنّهم يقضون ساعات من اليوم حول التلفزيون، وكان الناس قبل تعقيدات الحياة المادية والعمل المتواصل، يجدون وقتاً كافياً للعلاقات الاجتماعية، وللضيافة وزيارة الأصدقاء والأقرباء، أمّا بعدما طرأ على الحياة من تعقيدات ومشاكل، تضاءلت هذه العلاقات الحسنة، وخسر الإنسان تلك الروح الاجتماعية البنّاءة ، أما الأسباب فهي تكمن في اللهاث صوب المادة، ونسيان الجانب الفكري الذي يسهم في تركيز مدنية المجتمع. ولكي نتغلّب على هذه الظاهرة السلبية في الحياة المادية، لا بدّ من أن نوسِّع علاقاتنا مع الأصدقاء والأهل والأقرباء والجيران، في هذا المجال ينبغي أن يحضر دور المثقف بصورة فعالة من أجل تغليب المعنوي الأخلاقي على المادي، فهذا بحد ذته يسهم في بناء المجتمع المتمدن، علما أن الإنسان المثقّف، هو إنسان اجتماعي، يعرف كيف يعيش مع المجتمع ويتعامل بإيجابية مع الآخرين، ويؤثر فيهم بصورة جيدة، ويمكن أن يغير نظرتهم للحياة من مادية بحتة لاهثة خلف المال بكل الطرق والوسائل، الى نمط سلوكي متفاعل إنساني وأخلاقي متمدن.

المجتمع بين الوعي والتقليد

المجتمع الواعي يصنع قيمه وعاداته بنفسه، أي يحصل عليها من عمقه التاريخي، ولا يحتاج الى تقليد غيره من المجتمعات او الثقافات، ولكن هناك صنفان من الناس في قضية تلقِّيهم للثقافة والمفاهيم الحضارية والمدنية، من الأفكار والسلوك واللِّباس والطّعام والتعامل، وأسلوب العيش، وطريقة العلاقات الاجتماعية، والموازنة بين المادي والفكري، لاسيما أن كليهما مهم لبناء الحياة المجتمعية المتوازنة.

فثمة صنف يتلقّى الأفكار والسلوكيات وربما المظهريات عن فهم ووعي وقناعة، وهو على وعي بهذه الفكرة أو تلك ولماذا يؤمن بهذه ويرفض تلك، في حين هنالك صنف آخر ليس لديه فهم ولا وعي للأشياء فيذهب الى التقليد ويلجأ الى هذا الحل بسبب قصور في الوعي والثقافة والرؤية، فيكون التأثير فيه سطحيا شكليا ماديا مفتقرا للعمق الفكري المؤثر .

فهذا النوع من الناس يتلقى الأفكار ويتأثر بها من دون أن يتفاعل معها، وهذا دليل عن خلل واضح في ثقافة الفرد والمجتمع، وتراجع في دور النخب الثقافية، فالمجتمع المثقف لا يذهب وراء القشور، بل غالبا ما يكون عمقه الفكري المعنوي أكثر قوة من القشور المادي التي لا تغني ولا تسمن من جوع.

ولذلك بحسب متابعين ومراقبين مهتمين بتمدن مجتمعاتنا، إنّ المشكلة التي يواجهها كثير من الناس هنا هو التقليد الثقافي للغرب، وهذا دليل على تأثر مادي بسبب ضعف الثقافة وتدهور دور المثقف، فالبعض من الناس يتناول الأفكار الغربية في مجال الأسرة والحرِّية والجنس والمرأة والأزياء والمجتمع والعادات والتقاليد وهو يتناولها ويقتنع بها عن طريق التقليد للإنسان الغربي من غير أن يُناقشها، أو ينظر إلى سيِّئاتها التطبيقية في المجتمع الأوربي والأمريكي، حيث تعاني هذه المجتمعات من ظواهر شاذة باتت تفتك بهم، وهي من صنع أيديهم، كالمثلية، والشذوذ بأنواعه، والانتحار، والكآبة، والتوحد، والعزلة، فهذه كلها مؤشرات تنفي التمدن.

فيما نحن نسعى الى التحضر، ونبتغي صناعة مجتمع متمدن، ولكن ينبغي أن لا يكون على الطريقة الغربية التي اهتمت بالمادة وأهملت القيم والفكر السليم، وهنا بالتحديد يكمن دور الثقافة الحاسم.

اضف تعليق


التعليقات

عبدالمعروف علام
السودان -الخرطوم
اولا اشكر هذه القناه علي ما تمددنا به من معلومات قيمه وروعه وأشكر الكاتب علي هذه النقاط التي تتصب علي الأحرف الذهبيه لتذيدها لمعانا وبريقا ،وإذاكتبت كل شئ لم اجزيك حقك ب
الكامل وجزاك الله خيرا واعانكم الله علي فعل الخير دوما2017-10-23