q

هل يأتي من باب التمني، أن نحلم في بناء مجتمع من الملائكة، لاسيما في ظل ما يعانيه المسلمون بعامة، والعراقيين بخاصة، من تدهور في العيش وانحطاط في سبل العيش، نتيجة لتدهور القيم ما ينعكس على واقع إدارة الدولة، والاقتصاد، والتعليم، فينتج عن ذلك انحطاط في السلوك، يجر المجتمع الى الوراء نحو حافات التخلف والفساد، ويمحو الأسس التي تقوم عليها الدولة ويُفسد عمل المؤسسات والوزارات والدوائر وينشر الرشا وأنواع الاختلاس، بما يدمر شخصية الدولة وأركانها ويهشم هيكلها، بالتساوق مع تدمير الإنسان الفرد والمجتمع.

في ظل دولة تعاني من الفساد كالعراق، وفي ظل مؤشرات وبيانات تظهرها المنظمات العالمية والإقليمية المستقلة، حول واقع الدول المتخلفة في العالم، غاليا ما نجد العراق يحتل القمة في الأسوأ، لاسيما عندما يتعلق الإعلان بالفساد الإداري والمالي، لماذا يحدث ذلك؟ هل الأمر يتعلق بطبيعة المسؤولين ودرجة تقواهم وتدينهم والتزامهم الأخلاقي (ودرجة عفّتهم)، وهل الأمر يتعلق بمنظومة القيم التي رافقت التغييرات التي أعقبت نيسان 2003 وما حدث بعدها من تسلل نفوس (غير عفيفة) الى مناصب حساسة تهم السواد الأعظم من العراقيين؟.

قبل الإجابة من المستحسَن معرفة ماذا تعنيه مفردة العفيف، إنها كما ورد في معجم متخصص: جمع أعفَّاء وأعِفَّة، والمؤنث عفيفة، جمع عفيفات وعفائفُ. وهو أيضا ممن يعفُّ عمَّا يُحرَّم عليه من النِّساء، طاهر، عفيف اللِّسان لا يتكلّم إلاّ كلامًا طيبًا. (ومن باب أولى لا يأتي بأي فعل يخرج عن سياق القيم والأخلاق والأعراف السائدة).

وهذا الأمر يستدعي قوة روحية هائلة، تجعل الإنسان متمكناً من نفسه، متحكماً بها وليس العكس، وهذا بطبيعة الحال يحتاج الى جهاد من نوع خاص ودرجة عالية من التصميم والحصانة الدينية والأخلاقية والإنسانية العالية.

قال الإمام علي (عليه السلام) عن العفيف: (مَا الْمُجَاهِدُ الشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَعْظَمَ أَجْراً مِمَّنْ قَدَرَ فَعَفَّ لَكَادَ الْعَفِيفُ أَنْ يَكُونَ مَلَكاً مِنَ الْمَلَائِكَةِ).

وعندما يتساوى أجر المجاهد في سبيل الله بمن يجاهد ضد نفسه، لكي يكون ويبقى عفيفا، فهذا وحده يعطينا تصوّرا دقيقا عن عظمة الإنسان العفيف وقيمته ومكانته وقدرته على قيادة نفسه، ولنا أن نتخيل أو نحلم بأن نحقق مجتمعا، تتمتع نفوس أفراده جميعا، رجالا ونساء بالعفة، ترى ألا يتحول هذا المجتمع بهذه العفة الشاملة الى مجتمع من الملائكة؟.

لماذا انتشرت بؤر الفساد بالعراق

نحن قطعا لا نتمكن من صنع مجتمع جميع أعضائه من الملائكة، لاسيما أن شعبنا العراقي يفوق بحسب التقديرات شبة الرسمية الـ (35) مليون نسمة، ولكن نظرا لامتدادنا الإسلامي العريق، وأخلاقنا الضاربة في عمق التاريخ، نطمح أن نحقق نسبة عالية من هذا النوع من الناس، كي نستطيع بناء دولة متطورة ومجتمع ناجح، ولكن هذا الهدف المشروع، يحتاج إلى فهم معمّق للأسباب التي غيّرت نفوس الناس، وأضعفت القيم التي تمنع من الانحدار نحو الخطأ، وعندما تُعرَف الأسباب يمكن معالجة النتائج بصورة أفضل.

كان العراقيون في قفص معتم قبل 2003، استمر ذلك زمنا طويلا، يمكن تحديد بدايته بأواخر الحكم الملكي وكل فترة الحكومات الجمهورية، كأن هذا الشعب كان محكوما عليه بالحكم في زنزانة، معزول عن العالم، لا حق له بالاستفادة من ثورة المعلومات والإعلام التي اجتاحت العالم، مزايا العولمة كانت حكرا على كبار المسؤولين وذويهم والمتعاونين معهم، أما عامة الناس، حتى الطبقة المرفّهة والوسطى لم تكن بأفضل حال من الطبقة الفقيرة، الكل يعيش خلف جدران العزلة والقمع والتكميم.

فجأة تهدمت أسوار وقضبان وبوابات الزنزانة المظلمة، وخرج العراقيون الى العالم، فكانت الصدمة كبيرة والمفاجأة أعظم، والحرية التي باتت بلا حدود، جعلت من ساحة العراق مكانا مناسبا لانتشار الفساد الحكومي والمجتمعي معا، في ظل تطور كبير في الموارد الريعية ونعني به المورد الذي كان ولا يزال وحيدا لتمويل العراقي وهو (النفط)، وجاءت الميزانيات المالية الانفجارية التي فاقت (100) مليار دولار لعدة سنوات وميزانيات متتالية.

رافق ذلك انفتاح غير معهود في كل مجالات الحياة، وضعف قاتل في القانون، وفوضى عارمة في الإدارة، وتكالب منقطع النظير على المغانم من الطبقة السياسية، وتخطيط وتنفيذ خبيث من دول كبرى وإقليمية لاستنزاف قدرات العراق وثرواته وموارده، وترك نسبة ضئيلة لا تكاد تسد الرمق للسواد الأعظم من الشعب.

كل هذه الأحداث والمستجدات التي لم تكن اعتباطية، بل جرت وفق تخطيط دولي إقليمي بمساعدة ذيول وأذرع داخلية، فضلا عن الجهات والأنظمة المعادية للتغيير في العراق، أسهمت بمضاعفة وباء الفساد الذي يضرب البلاد، وساعد في ذلك استهداف القيم الأخلاقية وإضعافها، ما جعل من القيم السيئة تنهض الى الأعلى وتدس نفسها في النسيج الحكومي السياسي والاجتماعي معا، وهذا ما ألحق أكبر الخسائر المعنوية والمادية بالعراق والعراقيين.

هذا الواقع المزري، الذي نتج عن خلط متعمّد للأوراق، فضاعت الخصوصيات، واندثرت هوية المواطنة، وصار التندّر على من يتحدث بالمُثُل والأخلاقيات أمرا سائدا، فكثير من الشباب مثلا يسخرون من القيم الشريفة، وكثير من موظفي الدولة بادروا بالاختلاس والرشوة وعقد الصفقات الوهمية، وقد دخلت هذه الأفعال الشائنة، ضمن (تكوين النفس حاضرا ومستقبلا)، والمشكلة الأعظم حتى بعض رجال الدين سقطوا في هذا الفخ فبعضهم حلل التجاوز على المال العام بطريقة أو أخرى.

هل نحن بحاجة الى ثورة أخلاقية؟

مشهد مخيف وجائر، ما يمر به العراق والعراقيون اليوم، تخلخل أخلاقي قيَمي ضارب بأطنابه في المجتمع، الكلام عن العفة أمر بات يُضخك الناس ويجعلهم يتندرون على مثل هذا الأقوال والقيم، حتى بات كثيرون يتساءلون بصورة مباشرة أو عبر وسائل التواصل الإلكترونين او في وسائل الإعلام، والندوات وسواها، هل نحن بحاجة الى ثورة أخلاقية حقاُ.

ربما نحن بحاجة الى هزّة جديدة تعيد الأمور الى نصابها، وبات لزاما على المعنيين أن يبشروا بثورة أخلاقية جديدة تستنهض القيم من جديد، فما يحدث في النسيج الاجتماعي، وفي مجال الأخلاق والقيم، وما يدور سرا وعلانية في منشآت الدولة ومرافقها الحكومية وسواها، ينبئ بواقع بات من الخطورة، ما لا يمكن قبوله أو السكوت عنه، كونه بات يهدد الجميع بصورة مباشرة.

فماذا علينا أن نفعل؟ كمجتمع، ومؤسسات دولة، وأجهزة ومؤسسات حكومية، كي نضاعف من الإنسان الملاك، الإنسان العفيف، الإنسان القادر على أن يضع حدا للرغبات الخاطئة التي تلهث وراءها نفسه، وتضغط عليه كي ينحدر إليها، ماذا نفعل كأفراد وجماعات ومؤسسات حتى نخفف من سرعة هذا الانحدار المخيف، ثمة خطوات في هذا المجال منها:

- صنع الإنسان العفيف، تربية ذاتية ومجتمعية يتعاون الفرد والمجتمع لتحقيقها.

- العمل من المعنيين بإخلاص لاستنهاض القيم مجددا.

- تفعيل الضوابط الرادعة للفاسدين والمفسدين.

- تنشيط أجهزة الرقابة ومنحها الاستقلالية والحماية اللازمة.

- الشروع بحملات أخلاقية قيمية عبر وسائل الإعلام كافة.

- شروع النخب بدورها في هذا المجال لاسيما الدينية منها.

- المدارس والجامعات لها دور كبير في استنهاض القيم.

- الجهد الحكومي المنظَّم ينبغي أن لا يغيب في معالجة الفساد.

- الأسرة لها دورها الكبير أيضا، كونها تدفع باتجاه صنع الانسان الملاك.

- وأخير هل يمكن صناعة مجتمع ترتفع فيه نسبة العفة بصورة لافتة، الجواب نعم هذا أمر ممكن، ولكن شريطة أن توضع الخطوات الفكرية والعملية الصحيحة لتحقيق هذا الهدف.

اضف تعليق