q

بدءاً ما هي العوامل والأسس التي تقوم أو ترتكز عليها شخصية القائد السياسي المحنك، هل هناك عوامل محددة تشترك في تحقيق هذا الهدف، ثم ما هو نوع هذه العوامل.. هل هي معنوية أم مادية، هل هي مكتسَبة أم وراثية، هل هي علمية أم تربوية؟؟ هذه التساؤلات كلها واردة، وجميعها يصب في عملية البحث عن السبل الصحيحة أو المحتمَلة لصناعة الشخصية القيادية.

ثمة صفات واضحة يمكن أن نجدها في شخصية القائد، ولكن لابد من الرجوع الى رأي علماء النفس أو المعنيين بهذا الأمر، خاصة أننا إزاء مسألة لا مجال لمجافاة العلم في الحديث عنها، إن الوراثة لها نسبة في صناعة القائد، والظروف الواقعية لها حصة أيضا، أما الجانب التربوي والمعنوي ودور الحاضنة الأسرية فربما لا نخطئ إذا قلنا أنها تطبق على حصة الأسد في هذا المجال.

هل يختلف القائد عن غيره من الناس، كيف يمكن أن نلاحظ هذا الاختلاف، هل هو تميّز حقيقي في شخصيته أم أنه مصطنع وغير موجود وإنما مختلَق، لا شك أن شخصية القائد تشتمل على مواصفات وملكات مختلفة أو متميزة لا يمكن أن نجدها في عموم الناس، وقد حددها العلماء المعنيون في بحوثهم ودراساتهم، منها على سبيل المثال، الحكمة المقرونة بالحزم، والتوازن، والانبساط، والقدرة على التعامل بحنكة مع الازمات، وقوة الشخصية، والثقة المطلقة بالنفس، والصبر، والابتعاد عن العزلة، ومشاركة الجماهير في همومهم وتطلعاتهم، وبعد النظر، وما الى ذلك من صفات ومَلَكات لابد من توافرها في شخصية الانسان لكي يتسنى له قيادة الآخرين، إذاً هي صفات ومواصفات وملَكات قد لا نعثر عليها لدى أشخاص لا يتمتعون بسمة القيادة والقدرة على الإقناع والهيمنة النفسية على الآخرين.

في مجال الكلام عن الحاضنة الأسرية، يرى الباحثون المتخصصون في هذا الشأن، أن الزعماء والقادة هم نتاج العائلات الديمقراطية، أي أن المحيط العائلي الذي يسمح بتداول الأفكار وانتعاش الحوار، وتعدد الآراء ويبتعد عن تكريس السلطة في فرد واحد، سيساعد على تطور شخصيات قيادية مؤهَّلة لقيادة الآخرين، ولا يمكن للأسَر ذات السلطة الأبوية الصارمة والكابحة للآراء والمواهب، أن تساعد على ظهور الأفراد القياديين، مضافا الى تدخّل الجينات الوراثية في صناعة القائد، إذن هناك عوامل موروثة وأخرى مكتسبة تؤهل الأشخاص كي يكونوا قادة لمجتمعاتهم، لسبب واضح يتعلق بقدراتهم النفسية والمعنوية والفكرية والمادية والوراثية حيث تجتمع هذه العوامل لتنصهر كلها في بوتقة واحدة يخرج منها القائد للآخرين.

أثر الخبرات والتجارب والدروس

من الأمور المحسومة في هذا الصدد، أن القيادة لا تأتي من فراغ، فإضافة الى كل العوامل التي تم ذكرها، هناك عناصر تتعلق بالجهد الشخصي للإنسان ودرجة ذكائه، حيث يتدخل عامل الخبرة في صقل موهبة القيادة لدى الأشخاص، بمعنى أن القائد مضافا الى توافر العوامل الداعمة بشقيها المكتسب والموروث، هناك عامل مهم آخر هو مدى قدرة القائد على الاستفادة من التجارب والدروس والأزمات التي يمر بها هو شخصيا، أو غيره من القادة، ثم يحاول أن يتأملها ويدرسها بتركيز عال، لكي يطور من خلالها حنكته القيادية مع مرور الوقت، هذا الأمر يتعلق بدرجة ذكاء الإنسان، إذ من غير الممكن أن يستفيد الإنسان من تجاربه ما لم يبلغ درجة من الذكاء تؤهله على غيره وتمنحه صفة الهيمنة النفسية والطبيعية على الآخر.

العمل القيادي بحاجة الى الحزم والحسم، والأخير بحاجة الى اتخاذ قرار، قد لا يكون سهلا بحسب الظروف المحيطة بالقائد ومسؤوليته، ذلك أن صناعة القرار تحتاج الى خبرات وقدرات كبيرة، لاسيما اذا حصرنا كلامنا عن الشخصية القيادية في المجال السياسي وإدارة الدولة، فإذا كان النظام الديمقراطي لا يعتمد القرارات الفردية، فإن مجموع المشتركين في صياغة القرار لابد أن يتحلوا بمواصفات القيادة الجيدة، صحيح أن نظام المؤسسات الدستورية يمنع تركيز السلطة في شخص واحد، لكن هذا لا يعني تسلل الضعف في اتخاذ القرارات الى نفوس الأشخاص القياديين، بمعنى أن العمل وفق الضوابط الدستورية لا يسلب القائد مواهبه، بل يضيف إليها دعما مضافا يقف الى جانب القائد في تنفيذ رؤيته على أرض الواقع.

ولكن يبقى تقدير اتخاذ نوع القرار وحيثياته منوط بالقائد وفقا لخبراته وذكائه ورؤيته التي ينبغي أن تكون ثاقبة ومتميزة وملمّة بجميع الجوانب، فإذا ما تطلب ظرف سياسي معين أن يُتَّخذ قرار صائب وسريع ينبغي أن لا تكون الديمقراطية عائقا لمثل هذا الإجراء القيادي الهام، ولابد أن تظهر هنا الملكات القيادية للقائد الأعلى حتى لو كان تحركه وقراراته محكومة بالدستور وسقف الصلاحيات الممنوحة له، فهناك دائما هامش لموهبة القيادة والحنكة والخبرة القيادية، تتيح للقائد أن يتخذ القرار المطلوب من دون التجاوز على النهج الديمقراطي للنظام السياسي، وبهذا يتم حفظ الدستور واحترامه مع إعطاء الحرية لاتخاذ القرار الصائب في الوقت المناسب.

القادة واكتساب المهارات القيادية

ربما تكون هنالك محددات تجبر القائد على التأني او التسرع في اتخاذ القرار، ولكن ينبغي أن تكون النتائج واضحة له، ومع ذلك تبدو عملية اتخاذ القرار على درجة من التعقيد وربما الخطورة، فقد يُنظر الى القرارات المتعلقة بقضايا داخلية بعين تختلف عن القرارات الخارجية، فإذا كانت اللامركزية تحد من تفرّد القائد بصنع القرار الداخلي، وذلك لعدم تركيز السلطة بيد القائد الأوحد وتنمية المسار الدكتاتوري، فإن الأمر مع القرارات الخارجية قد يختلف أحيانا، خاصة إذا كانت مصالح الدولة مهددة بصورة مباشرة، هنا تتطلب المعالجة تركيزا للسلطة بدلا من تشتيتها، هذا الأمر يمكن أن يتقنه القائد من خلال التجربة التي يتحصّل عليها قبل وبعد تبوّئه للقيادة.

من الأمور التي لا تكون محل خلاف عادة، أن العمل القيادي يراكم من معرفة القائد ويضاعف من حنكته في إدارة شؤون الجماعة، وعادة ما ينجح القادة المجربون في اتخاذ القرارات المناسبة حيال القضايا التي قد يكون بعضها مصيريا، لذا فإن الظروف التي مرَّ بها الساسة العراقيون، يُفترَض أنها منحتهم فرصا لاكتساب المهارات القيادية، وتراكمت لديهم خبرات في التعاطي مع عملية صنع القرار، فالشخص الذي يزاول العمل السياسي يحتاج الى الاحتكاك الميداني في ممارسة عمله، لكي يتعلم من أخطائه وأخطاء الآخرين، ويضاعف خبراته مع مرور الوقت، وإذا كان مؤهلا أصلا للقيادة، فإن العمل الميداني المباشر يصقل شخصيته القيادية، ويمنحه فرصا إضافية للتفرد وإثبات الوجود، بعد النجاح في إدارة المهمة القيادية بنجاح وتفرّد تثبته النتائج البناءة.

هذا الأمر يجعلنا نقرّ بإمكانية صناعة الشخصية القيادية من مجموع العوامل المادية والمعنوية والوراثية والعملية أيضا، وهذا يؤكد بدوره أن الخبرة المتراكمة تمثل عاملا مهما في نجاح القادة باتخاذ القرار الملائم، لذا يتطلب من الساسة العراقيين في عهد الديمقراطية، أن يضاعفوا من قدراتهم وخبراتهم في عملية صنع القرار، وأن لا تغيب الموهبة القيادية في الأزمات والقرارات الملحة، لاسيما أن الواقع الداخلي يشهد أزمات شبه يومية في عموم أرجاء البلاد، قد يكون بعضها على قدر كبير من الخطورة والتعقيد، الأمر الذي يستدعي حضورا متفردا للشخصية القيادية القادرة على الحسم والتوجيه والمضيّ بالمركب العراقي نحو مرفأ الأمان والتقدم والاستقرار.

اضف تعليق