q

ماذا يعني التصالح مع الذات، هل يعني عدم الشعور بالذنب، أم الرضا عن السلوك والتعامل مع النفس ومع الآخر في كل الاحوال؟ وهل هذا النوع من القبول ينطلق من حالة اعتداد بالنفس أم شعور بالتضخم والغرور؟، يذكر الكثير من العلماء ان مفتاح التصالح مع الذات هو التعامل بتلقائية من النفس ودون تكلف ولا تصنع ولا مباهاة، وهناك خلط بين التصالح مع الذات وتطوير الذات، فالتصالح هو الرضا والقناعة بما أنت عليه، والتطوير هو تقييم الذات ومن ثم تقويمها، وبالتالي رفض الغرور بصورة مطلقة.

إن الانسان يسعى كي يكون مقبولا ومحبوبا من الناس الذين يحيطون به، لذلك يحرص على إبداء السلوك القويم في الوسط الذي يتحرك فيه، ولكن هذا السلوك يخضع لجذور ومصادر عديدة، فقد تكون تربية الانسان في بيئة متدنية تجعل منه غير قادر على التعامل السليم، لاسيما اذا كان يشعر بالاضطهاد لأي سبب كان، وهذا يعني أن الانسان لم يجد طريقا ولا فرصة مناسبة كي يتصالح مع نفسه.

وهو في هذه الحالة لا يتضاد من المجتمع فحسب، انما يحاول أن يتعالى على الآخرين بسبب عدم تحقيق حالة الرضا مع الذات، ومن المتعارف عليه أن الانسان يسعى في كل الأنشطة الفكرية والعملية التي يبذلها، نحو هدف واضح في الغالب، يتمثل بتحقيق الرضا النفسي والشعور بالتفوق والاستقرار، ولكن هناك جانب آخر حيث السعي نحو المادة، وتضخيم الذات، وتعظيم الجاه والنفوذ، وكأن الانسان في صراع مع غيره من الناس، لكي يصبح أكثرهم غنى ونفوذا وتتويجا لمبدأ تحقيق الذات، عبر المستوى المادي الأفضل كطريق للرضا عن النفس، ولكن يبقى هذا الأمر محكوما بالضمير!!.

وعند التساؤل عن ماهية الضمير سوف نعود مجددا الى التصالح مع الذات، علما أن بلوغ الرضا المادي يبقى هدفا يسعى له الجميع، وهو أمر مقبول ومشروع ولا غضاضة فيه، أو لا غبار عليه، على أن لا يصبح همّ الانسان الأوحد، لأن الكمال النفسي، سوف يحقق للانسان أضعاف ما يمكن أن يحققه الرضا النفسي له، بمعنى لو أنك استطعت أن تحقق نجاحا كبيرا في الجانب المادي، وتنسى استقرار الضمير، فكأنك لم تحقق شيئا في هذا المجال، وسوف تجد نفسك دائما في حالة من النقص والتيه والضياع، بسبب النقصان الذي تعاني منه النفس في الجانب الروحي والمعنوي، وهذا هو بالضبط ما يشعر به من يتجاوز على حقوق الناس، لاسيما اذا كان مسؤولا ذا قدرة على التجاوز وسلب حقوق الناس وأموالهم وحرياتهم.

زرع بذور الفتنة

إن مخاطر تهمي شاو إهمال الرضا مع النفس، قد لا تكون حالة فردية، وقد يؤدي هذا الخلل الى ظاهرة جماعية تضعف المجتمع كله، فالانسان الذي لا يرضى عن نفسه يكون اكثر استعدادا للفوضى، واكثر رغبة في اثارة المشاكل بطرق ووسائل كثيرة، وهذا يؤدي بالنتيجة الى اثارة الفتن المختلفة بين افراد ومكونات المجتمع، ولا شك أن الاستقرار يحتاج الى نبذ مثل هذه الظواهر والحالات.

وعندما يأتي الحديث عن المصالح بأنواعها، فإننا في الحقيقة قد لا نفهم لماذا يستميت الانسان من اجل تحقيق مصالحه على حساب الناس، نعم من حق الانسان ان يتطور ويتفوق وينجح ويتصالح مع نفسه ويقبل غليها ويتفق معها، ولكن ينبغي أن يتم هذا بطرق لا تسيء الى الاخرين، ولا تدفع الانسان المسؤول او غيره الى حالة من التعالي والغرور.

إن تحقيق التقدم المادي أمر مشروع تماما، ولا ريب في أن الوقائع التي تمخضت عن حركة الافراد والمجتمعات، أفرزت لنا حالات من الصراع والتضارب والتناقض كبيرة ومتواصلة، زرعت بذور الفتنة بين مكونات المجتمع البشري كله، نعم إن تضارب المصالح والاهداف اثناء السعي الى الرضا المادي، خلقت مشكلات كبيرة وذات مستويات متباينة، فهناك صراعات فردية واخرى بين الجماعات، وثمة صراعات دولية متأزمة بين الدول العظمى ومن يتبع لها، في حين هناك صراعات ذات مستوى أقل، قد تدور في المجتمع الواحد، في العموم لا يعني التصالح مع الذات انك ترضى عن نفسك وتغضب على المحيط الخارجي!.

فهذا النوع من الرضا الذاتي، قد يقود الانسان الى مشاكل كبيرة، وما فائدة ان تقبل عن نفسك وتتصارع مع الاخرين بسبب حالة التعالي او الغرور الذي ربما يصيبك، وقد يصل الصراع الى الافراد في محيط العمل او دائرة التواجد لأي سبب كان، ولكن ربما يبقى السعي الى المادة، عنصرا اساسيا في صنع التناقضات الخطيرة، الامر الذي يستدعي تنبّها شديدا الى النفس بدلا من الرضا عنها!!.

لهذا يؤكد أهل التخصص بأن الصراع بسبب التناقضات الحادة، قد تحدث بين الافراد او الجماعات او الدول بمختلف قدراتها، ومستوياتها من حيث درجات الضعف والقوة، ويكون السبب دائما الصراع المادي، وثمة فرق بطبيعة الحال بين الصراع والتنافس، لأن التنافس المادي يقوم على تكافؤ الفرص والمواهب والقدرات، لذلك هذا النوع من التنافس يقود الى الافضل دائما، وهو حراك مطلوب ومفضّل، كونه يقود الانسان صوب التكامل، على أن لا يتحول او لا ينتقل الى درجة الصراع، لأن التحوّل من مستوى التنافس الى الصراع، سوف يخلق مشكلات كبيرة وأزمات متتالية، لهذا ينبغي التخفيف من الشروع نحو تحصيل المادة بهدف ارضاء النفس، فالمهم هو كيف تكسب ضميرك الى جانبك.

بين النفسي والمادي

قد يحدث صراع بين النفس والمادة، وقد يلتقي الاثنان في هدف واحد اذا ضعف الانسان امام نفسه، لاسيما أن قيمة الرضا النفسي تتفوق كثيرا على الرضا المادي، ولابد للفرد أن يسعى أولا الى الموازنة بين الروح والمادة، فكلاهما جزء أساسي في تركيبة الانسان، وأي خلل في هذا الجانب او ذاك، سوف ينعكس بصورة مباشرة على حياة الانسان برمتها، ومن الممكن أن ينعكس السوء على المجتمع، فيما لو تعددت حالات الصراع المادي، وتنامتْ على حساب الروحي والنفسي، وهذا بالضبط ما ينبغي أن يتنبّه له الانسان الفرد والجماعة والنخب في عموم المجتمع.

ان التصالح مع الذات لا تعني اللهاث وراء المادة لإرضائها، ولا تغني الغرور الأجوف، نعم يوجد صراع يخوضه الانسان من اجل المادة، وربما لهذا السبب تكثر الامراض النفسية في مجتمعاتنا، حيث اكدت بعض الدراسات المعنية في المعضلات النفسية التي يعاني منها الانسان، أن سعيه المحموم نحو المادة على حساب الروحانيات، قد جعله يعيش في مأزق الاغتراب على نحو شبه دائم، ولابد في هذه الحالة من الاهتمام بالجانب الروحي ترسيخا لحالة الرضا عن النفس والتصالح معها..

واخيرا، من الأفضل للإنسان حسبما يرى العلماء المعنيون وأهل التخصص، أن لا يهمل الضمير ولا حالة الرضا عن الذات والتصالح معها، لأنه سيبقى بحاجة دائمة الى الشعور بالسلام والتوافق الداخلي، ولا يمكن أن يتحقق هذا النوع من الاطمئنان، إلا من خلال السعي لبلوغ الرضا النفسي، وفي حالة اهمال هذا الجانب الاساسي في بناء الشخصية المتوازنة، والانشغال الكلي بجمع المال، ومضاعفة الجاه والقوة وما شابه، فسوف يكون الانسان في حالة أشبه بالصراع مع ذاته والآخرين، لذا يُنصَح بمراعاة حالة الرضا والتصالح مع الذات على نحو دائم.

اضف تعليق