q

يتحدث المصلحون والفلاسفة والمفكرون الإيجابيون عن أهمية القيم الأخلاقية والتربوية السليمة، وأثرها الكبير في تعضيد النسيج المجتمعي، وهذا أمر يكاد يكون محسوما، بيد أن الجانب الآخر الذي لا ينبغي تجاهله أو إغفاله، هو تأثير مثل هذه القيم على المجالات الاخرى ذات المنحى المادي، فالاقتصاد مثلا يمكن أن يتحسن كثيرا عندما تكون هذه القيم سائدة بين أفراد ومكونات المجتمع، ويمكن أن تنعكس هذه المعادلة، فيصبح الاقتصاد هزيلا مترهلا ومعزولا في حالة ضعف هذه القيم.

الأدلة التي تثبت هذا الدور الكبير للقيم الجيدة وانعكاسها على تحسين الواقع الانتاجي، يمكن أن نلاحظها في المجتمعات الناجحة اقتصاديا، وهي المجتمعات المتقدمة، فهذا التقدم الذي نراه ونلمسه في أداء الاقتصادات المتقدمة لم يأت من التفوق المادي وانتعاش العلاقات المادية، وسيطرة وسائل الانتاج عليها، بل هناك عامل حاسم ساعد في مضاعفة الانتاج، حيث تنبّه المسؤولون عن المشاريع الانتاجية على أهمية القيم الاخلاقية وتأثيرها على الانتاج.

فقد اهتمت اليابان على سبيل المثال بعنصر الجودة في الصناعة اليابانية على نحو عام، والتزمت المصانع والمعامل ووسائل الانتاج كافة بهذه القيمة التي تنبثق من الصدق، وبالفعل اكتسبت السلع اليابانية سمعة لا تضاهيها اية صناعة اخرى في العالم، الامر الذي جعلها محط ثقة جميع الزبائن في العالم، واصبحت حتى الدول والاسواق المنافسة لها مستوردة لهذه السلع التي تتحلى بكفاءة عالية تفتقد لها الكثير من الصناعات الاخرى.

هذا يدل على أهمية القيم الايجابية، وحتمية انعكاسها على المجالات الاخرى، وهذا يفسر لنا اهتمام قائد المسلمين الأعلى أبان نشوء دولة المسلمين الأولى، النبي الكريم (ص) بمثل هذه القيم الفعالة، فعلى الرغم من أهميتها في صناعة المجتمع المتماسك اخلاقيا وانسانيا على وجه العموم، إلا أن امتداد تأثيرها الى تحسين الانتاج جعل منها وسيلةً وطريقاً للمسلمين في بناء دولتهم التي استطاعت في غضون عقدين من الزمن، أن تنافس وتتفوق على إمبراطوريات ودول كبرى كانت موجودة في زمن تأسيس ونشوء دولة المسلمين.

وهنا يتضح لنا أن الهدف من تشجيع المسلمين في بداية نشوء دولتهم، على التمسك بقيم التعاون والتكافل والتعايش، منبعها تربوي وأخلاقي، والهدف منها تحصين المجتمع من الهنّات الاخلاقية التي قد تخترق النسيج الاجتماعي، ومع ذلك كان التخطيط لتعميق هذه الحزمة من القيم يهدف أيضا الى تحسين العلاقات الانتاجية، ودمج المادي بالتربوي الاخلاقي، وجعل الترابط بينهما قائما على التوازن للمساعدة في بناء الدولة على الوجه الأمثل، وهو ما حدث فعلا، كما تشير لنا المدونات التاريخية في هذا الصدد.

العفو عمّن ظلمك

لقد كان قائد دولة المسلمين التي تم تأسيسها مع انطلاق الرسالة النبوية قبل قرابة 14 قرنا، مصرّا على ترسيخ القيم النبيلة بين المسلمين، لدرجة أنها لم تنحصر بالنشاط الدنيوي، إنما ارتبط تأثيرها ونتائجها على الآخرة أيضا، وهذا الربط المزدوج بين الدارين الأولى والأخرى كان تأثيره كبيرا على ترسيخ هذه القيم والتمسك بها، ومن ثم مساهمتها الفعالة في بناء الدولة والمجتمع الناجح.

فقد جاء في حديث شريف للرسول الأكرم: (ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة، العفو عمن ظلمك، وأن تصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك، وإعطاء من حرمك).

إن الفعل الذي ينتج عن التمسك بهذه القيم، ينطوي على انعكاس ايجابي وإن كان يستدعي درجة كبيرة وحاسمة من نكران الذات، فالمطلوب وفقا لتوجيهات هذا الحديث الشريف، أن تعفو عمَّن ظلمك، هذا يعني أنك بدلا أن تفكر في القصاص والتنازع والصراع الذي يؤدي الى فقدان الكثير من قدرات الأفراد والأمة، فإن هذا الفعل الظالم يمكن أن يتحول الى مصدر قوة للأمة عندما يعفو المظلوم عن الظالم كما دعى الى ذلك نبي الاسلام (ص) وقائدهم.

كذلك ثمة قيمة حاسمة اخرى تخص العلاقة بين الأرحام، وتأثير الإخاء في مضاعفة قوة النسيج المجتمعي، ويتبع ذلك قيم أخرى تمنع الانسان المؤمن عن التجاوز على أموال أخيه وحقوقه مهما كان الدافع الذي قد يقف وراء مثل هذه التجاوزات المرفوضة، فقد دعا الرسول الأكرم (ص)، المؤمنين الى الالتزام بهذه القيم، كونها تمثل السبيل الى الخلاص، من خلال صنع التوازن الاجتماعي واعتماد العدالة الاجتماعية في ادارة الدولة والمجتمع.

وقد جاءت دعوة الرسول الكريم الى هذه القيم ضمن ما ورد في خطبة الوداع، حينما خاطب الرسول (ص) أمة المسلمين قائلا: (أيها الناس إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه، ألا هل بلغت اللهم فاشهد).

هكذا أعلنها أول قائد لدولة الاسلام، النبي محمد (ص)، سلسة من القيم المترابطة مع بعضها، كي تسهم في تعضيد الجانبين الاخلاقي والمادي في الوقت نفسه، لذلك يرى المعنيون أنه لا يمكن أن يكون الهدف من هذه الاقوال والأحاديث الشريفة، هو تعضيد الجانب الاخلاقي فقط، بل الهدف يشمل أيضا الانعكاس الايجابي لهذه المضامين على تطور حياة المسلمين ماديا وإنتاجيا فضلا عن التطور الفكري.

تقديم مصلحة الحاكم

في الخلاصة مما تقدم، أن ما دعا إليه الرسول (ص)، وما طبقه بالفعل وهو يقود أمة المسلمين نحو أهدافهم، يؤكد هذه المضامين التي تشكل منظومة قيم كبيرة، ينبغي أن يتمسك بها المسلمون، وأن يتخذوا منها طريقا لبناء الدولة والمجتمع، ولكن ينبغي أن نعترف أن المسلمين منذ خطبة الوداع وحتى هذه اللحظة، لم يتقيدوا حرفيا بما أعلنه قائدهم وما أراده لهم من حياة مستقرة وهانئة، فقد أخطأ بعضهم لاسيما الطبقات الحاكمة.

ومكمن هذا الخطأ يتبين في تقديم مصلحة الحاكم على المحكوم، والتشبث بالسلطة وامتيازاتها، من خلال ضرب القيم التي أكد الرسول (ص) على وجوب التمسك بها، كونها السبيل الى تطور المسلمين في الفكر والثقافة والوعي، مدعوما بعجلة الانتاج المتواصلة التي تدعمها القيم القادرة على تحسين الانتاج وتطويره، فتسهم في بناء نسيج مجتمعي بالغ القوة، يرتكز على قاعدتين، الأولى القاعدة القيمية الاخلاقية التربوية، والثانية القاعدة المادية.

وبالتشارك بين الاثنتين، نحصل على التوازن المطلوب بين الاخلاقي والمادي، وعدم تفضيل أحدهما على الآخر، لاسيما أن التمسك بالقيم يقود بصورة آلية الى التحسن المادي، على العكس فيما لو كان الاهتمام ماديا فقط، لأن الاهتمام بالمادة وحدها قد لا يقود الى تحسين الاخلاق وربما يحدث العكس، وهذا يعطي أهمية قصوى للتمسك بالقيم، حتى تفتح الآفاق واسعة أمام التطور المادي.

من هنا نلاحظ أن بعض الدول الاسلامية، خاصة تلك التي حاكت الغرب في الجانب المادي، تطورت ماديا بصورة متسارعة، لكنها بقيت قاصرة فكريا، وهذه مشكلة كبيرة تجعل من الدولة والمجتمع في حالة من التذبذب، كونها لم توظف الجانب القيمي الفكري لصالح المادي، فبقيت تدور في مدار التطور المادي التقليدي الذي لم يراع الطرف الآخر من معادلة التوازن في البناء المجتمعي، وهذا يؤكد مرة أخرى حتمية انعكاس القيم الاخلاقية على رفع مستوى الانتاج وتطويره لصالح بناء الدولة والمجتمع.

اضف تعليق