q

للمرة الثانية على التوالي تم الإعلان عن بغداد كأسوأ مدينة للعيش في العالم، حدث هذا قبل أيام من الآن فقط، ويعزو بعض المراقبين أسباب ذلك لارتباك العاملين في الحقل السياسي، وعدم امتلاكهم الرؤية البعيدة المدى لقيادة البلاد الى شاطئ التقدم، فيما يرى آخرون من المتابعين والمراقبين، أن انسحاب الكفاءات وعدم تصدي الكثيرين منهم لمسؤولياتهم في هذه المرحلة يشكل سببا كبيرا في تراجع الحياة في بغداد وعموم العراق.

وعندما تفشل السياسة فلا ريب سوف تفشل مجالات الحياة الأخرى، وعندما تتهرب العقول السياسية المتميزة من أعباء البناء والعمل في السياسة، فالأمر لا شك سوف يؤول الى التردي والتراجع، لاسيما أن علم السياسة يؤكد بأنها (السياسة) هي فن العقل والحكمة والذكاء في إدارة شؤون الفرد والجماعة، بالميدان والمكان والوقت المناسب، فيما يتردد بين غالبية الناس لاسيما البسطاء منهم، بأنها فن الخداع والحصول على المكاسب بأقصر الطرق وأسرعها، بغض النظر عن القيم الأخلاقية والمعايير الإنسانية الصحيحة، التي ينبغي أن تتدخل في تحصيل النتائج، وهذه بطبيعة الحال نظرة ليست صحيحة، حيث تدخل في إطار الذرائعية التي يحتمي بها أصحاب العقول والخبرات كي يتركوا مكانهم في القيادة لمن هو غير مؤهل لهذا العمل الذي تعتمد عليه درجة تحسين الحياة في بغداد أو سواها..

لذلك من غير الصحيح أن تبقى الكفاءات بعيدة عن العمل السياسي، لأن النتائج تنعكس بصورة عكسية على حياة العراقيين بصورة عامة، كما أن التطيّر الشعبي من السياسة والسياسيين والعمل في الميدان السياسي، يعد بمثابة المنهج الحياتي الخاطئ، ويدل على نظرة قاصرة، ربما لا يعرف الناس مخاطرها عليهم، ونتائجها السلبية التي ستطول حياتهم، لذا يدفع هذا التطيّر بمعظم الناس الى ترك العمل بالميدان السياسي وفي تشكيل الأحزاب لمن لا يجيد التحرك والعمل فيه، أو لمن يستغل عمله السياسي لتحقيق مصالح فردية او حزبية أو عشائرية وما شابه، لذا من الطبيعي أن يملأ الميدان السياسي أناس لا يجيدون السياسة، اذا تخلت كفاءات المجتمع عن دورها وتركت أماكنها لمن لا يفهم بها، هذا بالإضافة الى ضعف الدور الرقابي المطلوب للمؤسسات الرقابية التي ينبغي عليها تشديد هذه المهمة على بعض الساسة الذين يستغلون مناصبهم لتحقيق الثراء غير المشروع على حساب الحقوق المجتمعية.

آفاق المستقبل السياسي للعراق

لذا من أكبر الأخطاء التي يرتكبها المجتمع، لاسيما قادة النخب وأعضائها عندما يفسحون المجال للفاشلين وقليلي الخبرة والكفاءة بالتسلل الى المناصب السياسية والإدارية المهمة التي تتطلب خبرات كبيرة ومواهب حساسة وذكاء ميداني متميز، لأن هذه المناصب لا تخص فردا بعينه، إنما تتعلق بمصالح الأمة كلها، فضلا عن مكانة الدولة ودرجة استقرارها وتطورها التي تعتمد بصورة كليّة على طبيعة إدارة مسؤوليات المنصب السياسي.

ويخطئ من يظن أن السياسة أقل أهمية من العمل في المؤسسات العلمية أو الطبية أو الاقتصادية، بل أكد أصحاب الشأن أن نجاح المجالات المذكور، يرتبط بصورة ديناميكية مع السياسة وإدارتها، فالسياسة ميدان لا يختلف عن الاقتصاد أو التعليم أو المؤسسات الاقتصادية أو سواها، والمجتمع من دون اقتصاد سليم لا يمكن أن يعيش حياة عصرية مرفّهة ومستقرة، لذلك فإن ترك الاقتصاد لغير الاقتصاديين سيدمره، وترك التعليم لمن لا يصلح له سيدمره أيضا، هذه البديهيات تنطبق على السياسة بل من باب أولى أن نهتم بالسياسة أولا كونها تنعكس على المجالات الأخرى نجاحا أو فشلا، من هنا تأتي أهمية أن تتدخل المكونات الاجتماعية المختلفة في مراقبة العمل السياسي ومتابعته، وعدم التهرب منه، بل على العكس ينبغي التشجيع على فتح آفاق واسعة للعمل السياسي المتميز، لأنه هو الذي يحدد المستقبل السياسي للعراق أو أي بلد آخر.

ربما يقول أحدهم إن الأمر يتعلق بالتخصص واكتساب الخبرات للعمل في هذا المجال، وهذا بالطبع كلام سليم ودقيق، لكنه لا يعني مقت السياسة، فالشخصيات الواعية في المجتمع وقيادات النخب، يجب أن يكون لها حضورها في متابعة عمل السياسيين، ومنظمات المجتمع المدني ينبغي أن تبقى جهات رقابية ضاغطة بقوة، لفضح الأخطاء والتجاوزات التي تُرتكب في الميدان السياسي، المرجعيات لها دورها أيضا، وكذا المثقفون والمفكرون، الكل ينبغي أن يكون دوره حاضرا وفاعلا في العمل السياسي، والتدخل في تحريك اتجاهاته لصالح المجتمع، وتصويبها دائما عبر وسائل الإعلام او الندوات، او المؤتمرات التي تشير الى أخطاء السياسيين بالدلائل، وتطرح البدائل السليمة، وعدم السماح لمن لا يمتلك الكفاءة والشروط الأخرى بالعمل في السياسة، كونها تتعلق بحياة الأمة ومصالحها، مع أهمية إبداء النصائح والتوجيهات للعاملين في السياسة حتى لا يكون هنالك تردي وتراجع في سبل العيش وطبيعة الخدمات في العاصمة أو المدن العراقية الأخرى.

بغداد مدينة تاريخية

بالنتيجة يرى المتابعون أن كثيرا من العراقيين يهمهم حاضر ومستقبل بلدهم، وقد تلقوا نبأ (بغداد أسوأ مدينة في العالم)، بسخط وألم وتذمر، فهذه المدينة التاريخية، لا يليق بها ما يحدث لها بسبب السياسات الرديئة، لاسيما إذا عرفنا بأن العراقيين يخوضون عمليات بناء شاملة في عموم مجالات الحياة، وهذا ينطبق على تجارب البناء الأخرى في العالم العربي أو سواه، لذلك فإن المطلوب إبداء الحرص التام على أن تكون عمليات التأسيس للعمل السياسي صحيحة وأن تضع المرتكزات السليمة، ولا يُخفى أن الكثيرين من غير المناسبين، تسللوا الى الميدان السياسي، والهدف بالغ الوضوح، هو الحصول على المناصب والمكاسب المادية الكبيرة، مقابل جهل كبير واستخفاف بالعمل السياسي، وقد أدى ذلك الى إلحاق أضرار كثيرة بالبلد لا تنحصر بالسياسة وحدها، إنما طالت الاقتصاد والصحة والتعليم والخدمات البلدية وسوأها.

وهكذا بات من الممكن أن يستمر الأمر على ما هو عليه، ولابد من اتخاذ إجراءات للتصحيح السياسي، إذ لا يمكن أن ننكر تلكؤ السياسيين في أعمالهم وأفكارهم أيضا، وتسلل الانتهازيين الى هذا الوسط، بل تسلل المخادعين الذين لا يجيدون طبيعة هذا الميدان أصلا، كونهم لم يتعلموا فن السياسة، ويفتقرون للمؤهلات التي يتطلبها هذا المجال الحيوي، الذي يمس حياة الناس ومصائرهم، إذاً لا يمكن للخلل السياسي الواضح أن يُغطى بغربال التصريحات والبيانات وسواها، ولا يصح للمجتمع والنخب ترك الأمور على الغارب، والهروب من أعباء المسؤولية وثقلها، والاعتكاف في عزلة طويل، أو البحث عن أعمال في مجالات أخرى غير السياسة، وهنا تكمن الطامة الكبرى.

في خلاصة القول، ربما لا نأتي بجديد، عندما نقول أن الآفاق السياسية لمستقبل العراق بالسلب والإيجاب، تعتمد بالدرجة الأولى على وعي شعبي نخبوي مزدوج، وثقافة عالية، وإيمان مجتمعي شامل، بالسياسة كعمل نظري ميداني لا يمكن أن يتصدى له غير القادرين على التميز فيه، وأدائه وفق مؤهلات وخبرات تؤكد القدرة على العمل في مجال السياسة بنجاح وإتقان، ضمن محددات وضوابط دستورية تضمن الأداء السياسي العالي، القادر على الأخذ بالبلاد نحو سياسية آنية ومستقبلية، تقوم على قرارات سياسية علمية كفيلة بالارتقاء بالعراق الى أسمى المراتب والدرجات.

اضف تعليق