q

تتسارع وتيرة الاحداث الامنية في العراق، مسجلة ارقاما جديدة من الشهداء والجرحى ومخلفة المزيد من الارامل والايتام في دولة بات الفقر والعوز صفة لعوائل الشهداء والمضحين فيها، فبعد الاعتداءات الارهابية على مدينتي الشعلة والصدر في العاصمة بغداد والمقدادية في محافظة ديالى؛ ها هي مدينة بابل تعود مرة اخرى لتسجل حضورها في نشرات الاخبار وصفحات النعي الفيسبوكية لضحايا الارهاب الداعشي والفشل الامني، لكن المفارقة ان مكان التفجير في سيطرة الاثار بات رمزا للأرقام القياسية للجماعات الارهابية سواء بعدد الضحايا او بكمية المواد المتفجرة وهي مسالة تستوجب الوقوف عندها وتحليل اسبابها .

ان قراءة طبيعة الخرق الامني في بابل يتطلب الرجوع الى الوراء قليلا وبالتحديد الى الخروقات الامنية التي حدثت في بغداد وغيرها فداعش استطاعت قبل ايام التسلل الى قضاء ابي غريب القريب من مطار بغداد الدولي والسيطرة على بعض النقاط الامنية فيه ثم قامت بتفجيرين متتاليين في مدينة الصدر، وتلتها اعتداءات المقدادية الاليمة، وفي تلك الاعتداءات الارهابية ذهب اغلب المتابعين للشأن الامني في العراق الى ان ذلك يمثل انعكاسا للهزائم التي تتعرض لها داعش في قواطع المواجهة مع القوات العراقية وبالتالي فهي تحاول مشاغلة القوات الامنية بفتح جبهات اخرى يكون ضحيتها المدنيين وذلك من اجل تقليل الضغط العسكري عنها، فيما ذهبت بعض الآراء الى ان تلك الاعتداءات الارهابية تأتي كاستراتيجية محكمة لتنظيم داعش الارهابي بدليل انها جاءت متناسقة وذات بعد هجومي.

التفجيرات الارهابية الاخيرة كانت متقاربة زمانيا ومتنوعة مكانيا وما نعرفه ان الاجهزة الامنية تبقى على اهبة الاستعداد في حال حدوث انفجار في منطقة معينة لتمنع حدوث اعتداء ارهابي آخر ولكن ان يحدث انفجار في مدينة تعد من المدن الامنة جدا فهو امر يثير الشكوك في مدى فعالية الحسم الامني الذي يتم الحديث عنه على لسان الساسة والقادة العسكريون لا سيما بعد تحرير مدينة "جرف النصر" قبل اكثر من عام من عصابات داعش إذ كانت هذه المدينة تمثل خطرا كبيرا على المحافظات الجنوبية؛ فطالما استخدمتها الجماعات الارهابية كمركز للانطلاق نحو العاصمة بغداد ومحافظتي كربلاء المقدسة وبابل جنوبا.

وما يثير الاستغراب هو التصريحات الامنية المطمأنة من قبل القيادات الامنية بسيطرتها على الوضع بشكل تام وتأكيدها على ضعف العدو الداعشي وعدم قدرته على استهداف المدنيين مجددا والمشكلة الاكبر ان هناك الكثير من المحللين الامنيين قد انساقوا وراء هذا الخطاب التخديري الذي يعتمد على ترحيل الازمة الى اجل غير مسمى، ومن ثم فاذا كانت الجماعات الارهابية قد ضعفت بشكل كبير فمن يستطيع ان يفسر دخول شاحنة كبير الى مدينة بعيدة عن مناطق سيطرة داعش، كما انها تعد من المدن الآمنة، وفي هذا الاطار يمكن ان نشير الى احتمالين في وصول هذه الكمية الكبيرة من المواد شديدة الانفجار الى منطقة التفجير في سيطرة الاثار:

الاحتمال الاول ان تلك المتفجرات تم جلبها من مناطق بعيدة قد تكون تحت سيطرة داعش واقرب هذه المناطق هي مدينة الفلوجة وبالتالي فان جلبها الى منطقة الاثار(منطقة حدوث الانفجار) يحتاج الى عبور عدد من السيطرات ونقاط التفتيش حتى تصل الى المنطقة المستهدفة وهو ما يعني ان هناك تقصير او قلة معرفة في التعامل مع هكذا حالات وقد يكون هناك اختراق للأجهزة الامنية المرابطة في نقاط التفتيش، وقد يكون هذا الرأي صحيحا الى درجة كبيرة فمحافظة بابل تمتلك اجهزة متطورة لتفتيش الشاحنات في السيطرات العسكرية الرئيسة. ومن هنا فان الدعوات التي اطلقها البعض لمسائلة الجهات المقصرة تستوجب التحقيق مع جميع نقاط التفتيش الامنية التي يتوقع ان تمر من خلالها الشاحنة المفخخة.

الاحتمال الثاني هو ان تفخيخ الشاحنة قد حصل في نقطة قريبة من منطقة الاعتداء الارهابي وبالتالي فان ذلك يمثل حالة تثير القلق، اذ يشير ذلك الرأي (اذا كان صحيحا) الى قدرة الجماعات الارهابية بالعمل والتنقل في مناطق نظنها امنة وخالية من الخلايا النائمة والمتيقظة وهذا يدعو الاجهزة الامنية الى اعادة التفكير سريعا بطريقة معالجة المشكلات الامنية من منظور جديد وتطوير الجهد الاستخباري بشكل يتلائم مع حجم الامكانات المتجددة التي يمتلكها العدو.

وبسبب هذه الخروقات الامنية المتكررة والتي تلحقها في كل مرة تصريحات "جوفاء" فقد انهارت ثقة المواطن بمدى قدرة الاجهزة الامنية في انهاء ملف الارهاب بشكل تام بسبب الفشل المتراكم ومن ثم فان المواطن اصبح غير مستعد للتعاون مع هذه الاجهزة، والاخطر من ذلك هو الشكوك التي تراود الكثير من الناس بمدى إخلاص العناصر الامنية بالرغم من ان عنصر الاخلاص موجود بمستويات عالية فالتضحيات التي تقدمها قواتنا الامنية سواء في جبهات المواجهة مع داعش او في قواطع العمليات في المدن والمحافظات الامنة تؤكد هذا الكلام، لكن هناك ما بات بحكم الحقيقة المطلقة لدى المواطنين بان القيادات الامنية العليا هي السبب وراء كل هذا الفشل الامني المتراكم.

ويقول بعض الخبراء ان توسع انتشار القوات الامنية في قواطع العمليات ضد جماعة داعش الارهابية ادى الى تشتيت الجهد الامني خاصة بعد تحرير العديد من المناطق بالإضافة الى ما تحدث عنه عدد من المسؤولين عن بدأ التحشيد العسكري لتحرير الموصل، كما ان ابقاء بعض المناطق دون حسم عسكري ادى الى اعادة الامل لدى جماعة داعش الارهابية فمدينة الفلوجة التي تبعد عن العاصمة بغداد 50 كيلومتراً والتي تحاصرها القوات العراقية منذ أشهر لم يتم تحريرها حتى هذه الان، وهو ما ينذر بعودتها من جديد كمركز انطلاق لداعش ضد العاصمة بغداد والمحافظات الجنوبية وبالتالي فمن الضروري التفكير بواقعية مع الاحداث وحسم بعض الجيوب التي ينشط فيها العدو قبل ان تعيد الجماعات الارهابية تمركزها في الخطوط الخلفية لقواتنا الامنية والحشد الشعبي.

ويرى خبراء عسكريون أن عودة داعش الى استخدام اسلوب التفجيرات ضد المدنيين تشكل مؤشراً على نية الجماعة الارهابية توسيع رقعة المعارك بالدفع بالمئات من عناصرها باتجاه العاصمة بغداد والمناطق الامنة وذلك لتشكيل عوامل الإنهاك لدى القوات العراقية بعد انتشارها في اكثر من منطقة. كما أن السماح بالتقاط الأنفاس لداعش عقب كل معركة هو السبب الرئيسي لما حدث من خروقات امنية، إذ قلت وتيرة العمليات في الرمادي وسحبت منها بعض القطعات الامنية الفاعلة ونشرت في مواقع أخرى وهو ما عده مراقبون تشتيتًا للقوات العراقية، بينما كانت عناصر داعش تنسحب من بعض المناطق لتتجمع في الفلوجة والكرمة لتنطلق منهما إلى بغداد والمحافظات القريبة.

وفي كل الاحوال فان انهيار الوضع الامني من جديد سيلقي بجحيمه على المواطن المسكين وبالتالي فاذا كانت هناك نية جادة لحماية هذا المواطن فالواجب ايجاد خطط تنطلق من قراءة صحيحة للواقع ودراسة مناطق القوة والضعف ومستوى الاستعداد لدى الاجهزة الامنية بمختلف صنوفها ، والاهم في اي خطة بديلة هو حماية الاجهزة الامنية من اختراق الجماعات الارهابية بالاضافة الى حمايتها من اختراق الاحزاب المتنفذة والتي لعبت دورا كبيرة في اضعاف قدرة رجل الامن على فرض الاجراءات التي يراها مناسبة للتعامل مع مختلف التهديدات الارهابية.

اضف تعليق