q

في الكثير من جلساتنا (الرسمية والخاصة)، نسمع كلمات قاسية جدا تستهدف الشعوب العربية، وتتهمها بالخنوع وبيع بلدانها للمحتل (الذي يكون غربيا في جميع الاحوال) والحكام الدكتاتوريين الذين يكونون موالين لذلك الغرب (الديمقراطي) في اغلب الاحيان.

الرئيس الامريكي دونالد ترامب اعلن يوم مساء الاربعاء ٦ كانون الاول/ديسمبر اعترافه بالقدس عاصمة لاسرائيل منهيا بذلك حوالي ربع قرن من سياسة التاجيل التي اتخذها اسلافه. ومكملا الخطوة الامريكية الاولى لتطبيق وعد بلفور عندما دعمت تأسيس إسرائيل عام ١٩٤٨.

واجه القرار موجة رفض عالمية على المستوى الرسمي ومن خصوم امريكا وحلفائها ايضا، روسيا وكندا وفرنسا والصين والقائمة تطول، وشعبيا كشفت بعض وسائل الاعلام العربية ثورة شبيعة عربية سلاحها التظاهر رفضا لانتزاع القدس من فلسطين والعرب والمسلمين واعطائها هدية ومهرا لمشرع الصفقة الكبرى التي صيغت وخطط لها خلال الزيارة الخارجية الاولى للرئيس الامريكي والتي ابتدأها بالسعودية.

رفع الكل نداء الرفض لهذه الصفقة وتمسكوا جميعا فلسطينيون وعرب بان القدس ستبقى عاصمة لفلسطين كما هي قدسٌ للمسلمين وعنوان كرامتهم بغض النظر عن كل ما جرى من حروب بين الاخوة والاخطاء التي ادت الى مجازر كان العراق وسوريا واليمن اكبر ساحاتها.

وحتى المرجع السيستاني الذي لا يتحدث الا بالامور الهامة جدا قد اصدر بيانا نشره الموقع الرسمي قال فيه ان قرار توامب بشأن القدس "مدان ومستنكر، وقد اساء الى مشاعر مئات الملايين من العرب والمسلمين، ولكنه لن يغير من حقيقة ان القدس ارض محتلة". البيان اكد حتمية عودة القدس "الى سيادة اصحابها الفلسطينيين مهما طال الزمن"، وشدد على اهمية تضافر جهود الامة وتتحد كلمتها في هذا السبيل.

في ظل ثورة الرفض هذه للقرار الامريكي انشغل بعض المثقفين العرب بتحميل الفلسطينيين المسؤولية بما وصلت اليه بلادهم منذ مائة عام، واتهموهم ببيع اراضيهم للاسرائيليين، بل اعلن هذا المثقف صراحة عن دعمه السلطات الاسرائيلية والامريكية على حساب شعب اغتصبت ارضه، والسبب بحسب رأيه انهم ساهموا بقتل الشعوب العربية بانضمامهم لصفوف القاعدة وبعدها داعش، متناسياو جرائم امريكية اسهمت بتدمير العراق وسوريا وليبيا واليمن، بالاضافة الى سلسلة الجرائم الاسرائيلية تبيح قتل المعارضة بالشوارع.

لنتفق اولا على ان الكثير من الفلسطينيين قد انضموا الى الجماعات الارهابية التي استهدف البلدان العربية وعلى رأسها العراق، وهذه جريمة مدانة ومستنكرة، لكن تعميم جريمة فردية او حتى مجموعة مسلحة على شعب كامل هي جريمة اكبر حسب اعراف المثقفين، بالاضافة الى ذلك فالجماعات الارهابية هي تنظيمات عابرة للحدود وتستقطب اشخاصا من مختلف الدول وداعش ضمت عشرات الجنسيات من بينها مواطنين من فرنسا وبريطانيا وروسيا الصين، فهل شعوب هذه الدول مشاركة بجرائمة داعش؟

الجانب الاخر والاكثر اثارة هو التهمة الجاهزة للشعب الفلسطيني بانه قد باع ارضه لاسرائيل، وهو يستحق كل ما يحصل معه، وهو انتهازي يريد استغلال الاسرائيليين للاستحواذ على ارض باعها عليهم. هكذا يقول بعض المثقفين.

هذه ليست خيالات كاتب يبحث عن الف كلمة يؤلف منها مقالا، انها افكار يتداولها مثقفون عرب ليلا نهارا، سرا وعلانية، وبقناعة تامة بان فلسطين قد تم بيع ارضها من قبل اهلها وليس لهم فيها حق.

هذا الفهم للقضية يكشف عن ازمتين للمثقف العربي، الاولى تتمثل باسقاط انفعالاته الشخصية على قضايا عامة، وهنا يقع المثقف في فخ الانحياز والابتعاد عن الموضوعية، ويقترب كثيرا ممن يجيدون فن السب واصدار الاحكام المسبقة.

الازمة الثانية تتمثل بعدم الفهم لاكثر القضايا اثارة للخلافات حول العالم لمدة قرن كامل، فاسرائيل لم تقام على ارض فلسطين بعد ان اشتراها المواطن الاسرائيلي من مالكها الفلسطيني، انما اقيمت هذه الدولة المزعومة بقرار دولي صريح عنوانه وعد بلفور عام ١٩١٧ وتم تطبيقه فعليا بدعم دولي ايضا عام ١٩٤٨. ونعرف جيدا ان ما يجري على الشعوب العربية سببه الحكام العرب الذين نصبتهم الدول الكبرى وساندتهم ضد الثورات الشعبية طوال المائة عام الماضية، ولمن لا يجيد التصويب عليه ان يتذكر عدد الثورات الفلسطينية ضد اسرائيل ويقرأ تقريرا صحفيا واحدا يتناول عدد الشعوب المشاركة مع الجماعات الارهابية اذا كان المقياس هو: (شخص واحد يعني شعب كامل!).

هناك القليل ممن يجيدون اساليب الربط بين الاشياء، من اجل بناء قطار طويل من الدقة والموضوعية، لان هذه العملية بحاجة لجهد عقلي وجسدي كبير وقدرة على تحمل عبارات التخوين والتآمر ضد الوطن والدين، وربما يصبح الدفاع عن فلسطين جريمة في يوم ما، فالمثقف يتلقى نفس الافكار المعلبة في وسائل الاعلام وينشرها في ذات الوسائل على انها استنتاجاته الخاصة.

ولان (المثقف) العربي غير مستعد لخوض التجارب الخطرة يختصر الحدث بعبارات ينتقيها من الشارع ويضع عليها بعض الكلمات الغربية والمصطلحات غير المفهومة، مفسرا بها واقع الامة حسب هواه، ثم يضع هامشا اسفل تفسيراته يؤكد فيه وبالايمان الغليضة انه لا ينتمي لجهة سياسية_كجزء من التقاليد الجديدة.

فلسطين لم يبيعها اهلها كما يزعم مستهلكوا الفكر المعلب، لان الدول الكبرى هي المتحكم في المنطقة وهي المسؤول الاول عن كل ما يجري، الم نقرأ عن وعد بلفور وحروب (١٩٤٨، و١٩٦٧، و١٩٧٣) واحتلال لبنان عام ١٩٨٢ والعدوان عليها عام ٢٠٠٦ (الشعوب كانت تدافع وامريكا كانت تمد الجسور الجوية للتزويد اسرائيل بالاسلحة، كل هذا ولا نزال نختصر القضية ببيع قطعة من الارض!

الا يجدر بنا ان نتجاوز قضية التعميم الجاهز ونقول ان وجود فلسطينيين في صفوف داعش، لا يعني تجريم شعب كامل، والا كان الاجدر تجريم الشعب السعودي والقطري والاماراتي لان عشرات مليارات الدولارات قد صرفت لدعم الحرب ضد سوريا لمدة سبع سنوات وباعتراف وزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم.

ايها المثقف العربي، لا تدافع عن فلسطين، فهناك الملايين من الشعوب العربية تجيد فن الرفض والتظاهر، لكن دافع عن عقلك ولا تجعله شبيها بمعدتك التي اعتادت اكل الطعام المعلب لسهولة هضمه وتوافره بالاسواق. اربط بين الاشياء وستكتشف ان الثقافة لا تعني تبني الفكر الغربي فقط، ربما تعني التفكير المستقل ايضا.

اضف تعليق