q

اقترن رسول الله (ص) بالقرآن الكريم، والقرآن هو قمة الفكر ولا يمكن الإتيان بمثله في أي جهة من الجهات التي تطرّق إليها، فهو الكتاب المعجزة الذي تحدى به الله تعالى جميع البشر، وإعجازه ليس في بلاغته فحسب، بل يشمل الإعجاز ما هو أهم منها من أحكام واجتماعيات وأخلاقيات وسائر شؤون الحياة الدنيا والآخرة.

ولا يمكن دراسة حياة النبي (ص) وطريقة تفكيره وتخطيطه بمعزل عن ملاحظة القرآن الكريم، إذ لا يمكن أن تكون بعيدة عنه وعن تعاليم الإسلام، لأن فكر وعمل النبي (ص) كانا يتمحوران حول القرآن الكريم، وكان الوحي يدعم الرسول في كل صغيرة وكبيرة، وحتى في المآزق كان رسول الله (ص) ينتظر أوامر السماء وتعاليمها (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها) البقرة: 144، كما أن تعاليم الإسلام كان يتلقاها رسول الله (ص) من السماء ليرشد الناس إلى خيرهم وصلاحهم (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) النجم: 3 -4 مع أن الله تعالى قد أدب نبيه بآدابه وبما أراده ليجعله الإنسان الكامل المعصوم من الخطأ والزلل والسهو والنسيان، وفي الحديث الشريف (إن الله أدب نبيه... ففوض إليه دينه)(1).

وفي حياة الرسول (ص) وطريقة تخطيطه وتفكيره جوانب متعددة لا يمكن حصرها واستقصاؤها، ولكن ستكون لنا إشارات خاطفة إلى بعض تلكم الجوانب عسى الله أن يزودنا ببعض إشراقات رسوله (ص) لنضمن سعادة الدارين.

إن الأفكار هي المولد المحوري الأساسي لحركة المجتمعات، ويرتبط بها مصير الشعوب، كما أن الذي يريد السيطرة على الشعوب يحاول السيطرة عليها عبر سلطانه على أفكارها بعد فشله في السيطرة العسكرية على أجسامها، ومحاولة فصل المسلمين عن نبيهم لا تصب في اتجاه ابعادهم عن اسمه وعن الطقوس بمقدار ما هي محاولة لإبعادهم عن فكره ونهجه، ليحلوا أفكارهم محل أفكاره، ولتتم لهم السيطرة على المسلمين وعلى خيرات بلادهم عبر السيطرة على أفكارهم.

إن تسليط الأضواء على حياة الرسول (ص) ونمط تفكيره والأفكار التي عرضها لهو خير وسيلة لمعرفة تلك الأفكار ومحاولة تطبيقها واتباعها (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (الأحزاب:21).

منهج التفكير الواقعي

إن المفكر إذا أراد لفكرته النجاح، وأراد تحويلها إلى واقع على الأرض، لتستمر ولكي لا تبقى حبراً على ورق، يجب عليه أن يحولها إلى فكرة واقعية تنطلق من صميم المجتمع، ويجب أن يلاحظ فيها مختلف الجهات والظروف والحالات الطارئة، فلو تمكن من بناء فكرته على هذه الأرضية فإن أساسه سيكون متيناً يمكن البناء عليه واستمراره، أما إذا لم تنطلق الفكرة من واقع الإنسان ومتطلباته الواقعية فإنها سرعان ما تصطدم بواقع الحياة، ويتم تجاوزها ونسيانها، وإن بقيت فإنما تبقى كديكور فحسب، أو كمومياء قابعة في زاوية من زوايا متحف، قصارى أمرها أن ينظر إليها فقط، وهذا ما يشاهد في النصرانية، حيث إن الدين الذي أتى به نبي الله عيسى (ع) كان لزمان خاص وقد نسخ، ثم إن ذلك الدين قد مسه التحريف، ونالت منه الخرافات والعقائد الوثنية، ولذا ظلت النصرانية مخالفة لفطرة الإنسان، ومعوقة لتقدمه، وقد تم تجاوزها منذ قرونها الأولى، بحيث لم يبق سوى اسمها، قال الله تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً) (النور: 39).

ولأن الإسلام خاتم الأديان وأراد الله له الدوام إلى أن يرث الأرض ومن عليها، فإنه ابتني على أرضية ثابتة وأساس صلب ينطلق من واقع الإنسان ويطابق فطرته، ولذا انبثقت عن الإسلام أفضل وأكمل حضارة شهدتها الإنسانية.

ولأن مبادئ الإسلام الحنيف تلائم واقع الوجود البشري - على الإطلاق -، فقد ظلت بمنأى عن التحريف، رغم أن سلاطين الجور وبالاستعانة بشرذمة من وضاع الأحاديث حاولوا بما أوتوا من قوة، طمس تلك المبادئ، لكنها بقيت شامخة تسطع وتضيء لمن ألقى السمع وهو شهيد، وفي هذا المضمار يقول مالك بن نبي: (الأفكار القرآنية قد استخدمت خلال قرون قوتها ضد كل محاولة تحريف أو تزييف، وفرضت رقابتها على كل دخيل عليها، مقصية بذلك شحنة الإيحاءات السلبية التي يحملها الدخيل إليها، حتى لا يكون لها أي أثر سيء على الضمير الإسلامي في النهاية، وهكذا كان مصير جميع المحاولات التي أريد بها تشويه القرآن وتحريفه عبر التاريخ، لأن الأفكار القرآنية بصفة خاصة تقوم بدور المصفي بالنسبة إلى الأفكار الدخيلة المشتبه فيها، التي تحاول يد خفية أن تزجها في دائرتها.

لماذا لم يتح لهذا الدخيل أن يندس في دائرة الأفكار القرآنية وبالتالي أن يدس الريب والحرمان في الضمير الإسلامي؟

الجواب إن هذا الضمير نفسه كانت له حصانته الخاصة ضد الحرمان، فقد كان محصناً أولاً بنظافته الأخلاقية التي لم تكن تتيح لأي جرثومة أن تصل إليه من الخارج، أي أنه لم يكن فيه استعداد للتعفن، ثم إنه كان محصناً ثانياً بميزة فكرية، وهي التي تكون بالضبط حجر الزاوية في الصراع الفكري، فهذه الميزة هي التي تجعلنا ندرك تلقائياً قيمة الأفكار كأفكار، وبهذا ننتهي إلى أن الشيء الذي يتكفل حصانة دائرة أفكار معينة، هو في الحقيقة قيمة أخلاقية تشترط النظافة وتفرضها في كل الظروف، وقيمة فكرية تجعلنا نميز بين الغث والسمين)(2).

إن حياة رسول الله (ص) مليئة بالشواهد الدالة على أنه كان يفكر تفكيراً واقعياً، منطلقاً من أحكام وقيم السماء التي ظل وفياً لها، حتى في أحلك الظروف وأشد المحن، ومن أمثلة ذلك:

عدم المساومة على المبادئ، ومراعاتها في كل الأحوال، ومع أنه قال (الحرب خدعة) (3)، إلا أنه لم يفارق المبادئ والأصول الإنسانية في أي غزوة غزاها، أو في أي سرية بعثها، ولم يكن مستعداً لإحراز النصر بالجور، لأن الجور وإن كان قد يعجل النصر في بعض الأحيان إلا أنه ينخر في البنية الأساسية للمنهج، ويجعله عرضة للزوال على المدى البعيد، وصاحب المنهج إذا خالف منهجه، والمفكر إذا جانب فكرته فإن الآخرين لمخالفته أسرع.

فمثلاً: لم يترك الرسول (ص) الصلاة حتى في حال الحرب والتحذر من العدو، وفي القرآن آية تبين طريقة صلاة الخوف، وحينما حاصر الطائف أشار عليه أصحابه بقطع أشجار العنب المحيطة بالمدينة والتي كانت مصدر رزق لأهلها لكنه رفض ذلك، وفي غزوة أخرى أشار عليه البعض بقطع الماء عن القلعة المحاصرة لكنه أبى أن يفعل ذلك أيضاً؛ فما دام المنهج يأمر بالعدل، تجب مراعاته في جميع الظروف، ومخالفة صاحب المنهج لمنهجه تكشف للجميع عدم مصداقيته وعدم واقعيته، مما يجعل الفكر أو المنهج عرضة للزوال بمجرد زوال القوة التي تدعمه.

كما أن ملاحظة الأحكام الشرعية ترشدنا إلى واقعية التفكير الإسلامي وسلامة التخطيط النبوي، فليس ثمة أفكار في المنهج الإسلامي لها بريق فقط دون أن يكون لها انسجام مع الواقع، لأن البريق لا شأن له إلا الزوال، ومن أسباب فقدان كثير من الأفكار حيويتها، وموتها -بعد سطوع- هو عدم اتسامها بالواقعية، وبقائها محاصرة ضمن دائرة الزمان والمكان اللذين كان يعيش فيهما صاحب الفكرة، فلو اغتر الناس بها برهة، فإنهم سرعان ما يصطدمون بالواقع المرير الذي يجعلهم يعدلون عن تلك الفكرة ويلقونها في سلة المهملات.

أما ما طرحه وبينه الرسول (ص) فكان منطلقه الواقع ولم ينحصر في دائرة زمانية ومكانية خاصة، ولذا لم تفقد تعاليم الإسلام حيويتها حتى في أشد الظروف وأقساها، وما زال الإسلام متمكناً راسخاً في نفوس المسلمين وسيبقى كذلك إلى الأبد.

العقيدة ركيزة التحرك

إن المعتقد هو المولد الرئيسي لحركة الإنسان، ولولاه لخمدت حركته وألقى الحبل على الغارب، ولقبع في إحدى زوايا بيته تائهاً حائراً، ويلاحظ أن الشخص مستعد للتضحية بكل غال ونفيس حفاظاً على معتقده، وكلما كان المعتقد أشد رسوخاً في نفس الإنسان وعقله، كلما كان الاستعداد للتضحية أكبر، وكلما كان المعتقد ضعيفاً لديه، كلما كان متذبذباً ومستعداً للتنصل منه في الأزمات والصعوبات.

فجاء تركيز الرسول (ص) على هذا الجانب المهم في حياة الإنسان، منذ بداية دعوته الشريفة، والآيات المكية تتطرق إلى هذا الجانب -عادة- لكي تستقر العقيدة في قلوب الناس، وحتى السور المدنية والآيات المباركة التي تعالج الجوانب الاجتماعية والأخلاقية في حياة الإنسان جاءت مشبعة بالجانب العقيدي، ومقارنة بسيطة بين سورة يوسف في القرآن، وقصته في التوراة تكشف لنا هذا الأمر، فالقصة في التوراة مجرد قصة وكأنها لكاتب روائي يريد تسلية القرّاء فقط ليملأوا فراغهم ويقتلوا وقتهم، بينما القرآن الكريم جعل سورة يوسف -وهي من أحسن القصص- مسرحاً لاستعراض القيم الإلهية وموعظة وإرشاداً، في جميع الجهات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية والأخلاقية وغيرها، إضافة إلى التركيز على القضية العقائدية.

بل قد جعل الإسلام المعتقد هو الأصل فمن شهد الشهادتين دخل في ربقة الإسلام وإن كان فاسقاً، ومن لم ينطق بهما كان كافراً وإن فعل ما يستوجب المدح.

وتتبين أهمية المعتقد أكثر عند النظر إلى حياة العرب في الجاهلية حيث كانوا أذلة خاسئين يغلب عليهم الفوضى والاقتتال بحيث كان شعارهم الخوف ودثارهم السيف، ولكن حينما دخلوا الإسلام صاروا سادة العالم وأصحاب حضارة لم تشهد البشرية لها مثيلاً.

التدرج في الطرح

إن الأفكار المطروحة يلزمها أن تأتي في وقتها ومكانها المناسبين، وإلا فإنها تذهب أدراج الرياح، بل قد توجب أضراراً جمة على معتنقيها خاصة وعلى المجتمع عامة، وهو ما يعبر عنه بالحكمة التي هي وضع الشيء في مكانه المناسب.

إن ملاحظة حياة رسول الله (ص) تكشف عن مراعاته لهذا الجانب بدقة متناهية، بحيث أنه بدأ دعوته خفية مدة ثلاث سنوات ثم دعا أقاربه، وبعدها أهل مكة، ومن ثم أهل المدينة، وعلى الأثر قبائل العرب، ثم بدأ دعوته العالمية، كل ذلك لأجل أن تنمو الدعوة في أجواء مناسبة، ولتعتمد على أرضية صلبة، لأن الطفرة والقفز على المراحل، تورث ضعف الحركة وزوالها ولو بعد حين.

كما أنه (ص) -وبأمر من الله تعالى- التزم التدرج في الأحكام ولذا فإن التشريعات والأحوال الشخصية والحدود وأمثالها تأخر بيانها إلى حين دخول المدينة المنورة وبالتدريج، حتى إن بعض المحرمات -مثل حرمة الخمر- شرعت ضمن مراحل.

وهكذا بالنسبة للكثير من الأمور، مما يكشف عن عبقرية الرسول (ص) ولطف البارئ عزّ وجل.

رد الشبهات وإزالة الشكوك

إن من يريد لنهجه وفكره الدوام ينبغي عليه الاهتمام بدفع الشبهات، أو إزالة أسباب تلك الشبهات، وبتعبير آخر عليه خوض الصراع الفكري، بعد التجهز له، وإلا فإن الانتصار العسكري والسياسي سرعان ما يزول وينتفي أثره على ممر الأيام، كما قال تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس) (آل عمران:140)، فلو كانت الحجة قوية، فإن الهزيمة العسكرية أو السياسية لا تضر بالمنهج أو الفكر، فما دام الناس مقتنعين بها فلا سلطة للغزاة على قلوبهم، أما لو كانت الحجة ضعيفة والشبهة قوية فإن الهزيمة العسكرية ستتحول إلى هزيمة فكرية أيضاً، والمنهج يزول بزوال القوة التي تدعمه، وعلى سبيل المثال فإن العثمانيين حكموا البلقان مئات السنين دون أن يهتموا بالجانب الفكري، فبقي أهلها على كفرهم، حتى إذا انهزم العثمانيون عادت دولة الكفر بأشد من السابق.

ولذا فإن الرسول (ص) اهتم بدفع الشبهات والرد على المبطلين، حتى أن أحكاماً تغيرت لإسقاط حجج هؤلاء المبطلين.

ونشاهد أن كل حكم في القرآن الكريم أو في سنة الرسول (ص)، مدعوم بدليل أو علة ذلك الحكم، فالمحرمات في القرآن والسنة اقترن تشريعها ببيان مضارها، والواجبات بذكر منافعها كقوله تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) (العنكبوت:45)، وقوله: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر) (المائدة:91)، وكلما سأل سائل عن علة تشريع حكم من الأحكام جاء الجواب مقنعاً، ولم يقتصر الأمر على القول بأن الإرادة الإلهية هكذا، مع أن هذا الجواب صحيح ومسكت لكنه ليس بمقنع، وقد وردت في روايات أهل البيت(ع) إشارات كثيرة إلى أسباب الأحكام وعلة تشريعها، وقد جمع الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) بعضها في كتاب أسماه (علل الشرائع).

كما أن موضوع دفع الشبهات أو إزالة أسبابها -ولو بتغيير الحكم أحياناً- كان من أولويات الفكر النبوي، وهذا القرآن -وهو كلام الله المجيد- قد حفلت آياته بدحض الشبهات -حتى الصغيرة منها- لكي لا يبقى للمبطلين منفذ وسبيل، ولنضرب مثالاً: إن القبلة في بداية نزول الوحي ولفترة طويلة كانت باتجاه بيت المقدس، الأمر الذي أوجب طعن اليهود على الإسلام واعتبار أنفسهم هم الأصل والمسلمين ذيولاً!!، وهو ما كان يؤذي المسلمين، فجعل رسول الله (ص) يقلب وجهه في السماء، منتظراً تشريعاً إلهياً في هذا الشأن، فنزلت آيات تأمر المسلمين بتغيير قبلتهم باتجاه المسجد الحرام، ويقول الله تعالى في علة هذا التغيير (لئلا يكون للناس عليكم حجة) (البقرة:150).

وفي العصر الحديث بعد ما فشل الاستعمار في الغزو العسكري، عمد إلى الغزو الثقافي عبر محاولة زعزعة عقائد المسلمين باختلاق الشبهات المختلفة حول الإسلام، بطريق مباشر، أو غير مباشر، وعبر نشر المفاسد من قبيل السفور والخمور، وتسويغها بمختلف المسوغات، حتى يظن الناس بأن الدين عائق أمام حركتهم فتهتز قناعاتهم به، ولم يفته لتحقيق هذا الغرض سن مجموعة من القوانين الوضعية بهدف تضييق الخناق على الملتزمين، بشتى الوسائل والسبل، وجعل غير الملتزمين في فسحة، حتى يتوهم الناس بأن غيره (الدين) أفضل منه، فمثلاً: منع الحجاب في المدارس بفرنسا ضيق الخناق على الملتزمات، بحيث حصل تعارض مزعوم بين الحجاب وطلب العلم، لكي يلقوا في روع الناس التلازم بين ترك الدين وبين التقدم والرقي!!.

ونقل أحد الكتاب الفرنسيين أن الاستعمار الفرنسي -إبان احتلاله للجزائر- ركز على زراعة العنب -مع أن أرض الجزائر صالحة لشتى أنواع المحاصيل وفرنسا لم تكن بحاجة إلى العنب- ثم ربط تجارة العنب بمصانع الخمور، بغية جعل هذا الأمر مورد تكسب للعيش في حياة مواطني هذا البلد، وهو ما يترتب عليه - بالنتيجة - اضمحلال وضمور الوازع الديني، بل وأبعد من ذلك إظهار الدين وكأنه مانع أمام كسب لقمة العيش؛ ومن الطبيعي أن عدم الاهتمام بحكم الشرع في الخمر - وهو من أشد المحرمات - يستتبع عدم الاهتمام بسائر المحرمات.

وهذا الأمر يستدعي التحرك لإلغاء تلك القوانين وفضح أهدافها، وتقديم البديل الإسلامي الأفضل.

تغييــر العــادات

إن كثيراً من الأمور والعادات ليست قبيحة في نفسها، بل قد تكون حسنة بعض الشيء، ولكن لظروف أو أسباب خاصة، اقترنت بأمور سيئة بحيث وقع تداعٍ بينها - على نحو القضية الاتفاقية حسب التعبير المنطقي - فكلما أجريت تلك العادة لازمها ذلك الأمر السيء؛ هذه المشكلة بحاجة إلى حل، ومن أفضل الحلول هو التحول من تلك العادة إلى عادة أفضل منها، واستبدال الأمر الحسن بأمر أحسن منه، حتى لا يبقى أثر لذلك القبيح الذي تلازم مع تلك العادة.

والرسول (ص) لم يغفل هذا الجانب، فغير الكثير من تلك العادات والتقاليد - التي لم تكن قبيحة في نفسها إلى عادات أحسن منها، وحتى في الأمور الصغيرة.. وإنما كان التغيير إلى الأحسن بقصد استساغة التغيير، وتذليل العقبات في وجهه.

ولنذكر بعض الشواهد:

إن تهنئة الزواج المتعارفة بين الجاهليين هي عبارة (بالرفاء والبنين) أي بالانسجام بين الزوجين وأن يرزقوا بأولاد، وهذه العبارة - في نفسها - لا بأس بها، إذ من المحبذ أن يكون هناك انسجام بين الزوجين وأن يرزقوا بأولاد، ولكن هذه العبارة كان يتداعى منها إلى الذهن ازدراء للبنات والضيق بهن، فازدراؤهن أمر قبيح ومذموم كما قال تعالى: (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم) (النحل:58)، فهنا جاء دور رسول الله (ص) لتغيير عبارة (بالرفاء والبنين) وإبدالها بعبارة (على الخير والبركة) وقد اختار (ص) موقعاً وحدثاً لا ينسى ويبقى في الأذهان وهو يوم زواج سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (ع) ففي الحديث الشريف (لما زوج رسول الله فاطمة، قالوا بالرفاء والبنين، فقال لا بل على الخير والبركة)(4).

كما تم تغيير عبارة (باسمك اللهم) التي كان يستخدمها الجاهليون إلى (بسم الله الرحمن الرحيم)، مع أن (باسمك اللهم) اسم من أسماء الله تعالى، وكذلك جرى تغيير التحية من (أنعم صباحاً) و(أنعم مساءً) إلى (السلام عليكم)، وغيرها كثير؛ وذلك لما ذكرنا من أن الأفكار الجديدة يجب أن يهيأ لها الجو المناسب، لتتركز في نفوس الناس، ولتقطع صلتهم بعادات سيئة وذكريات باطلة.

معــايشة الفكــر

إن المفكر الذي يريد لفكرته النجاح يلزمه أن يقدمها على وجه، بحيث يعيش معها الناس في كل أوقاتهم، حتى تتجذر في نفوسهم ويشب عليها صغارهم.

والرسول (ص) لم يأل جهداً في هذا المضمار، فركز على هذا الأمر، بحيث جعل المسلمين -وبأمر من الله تعالى- يعايشون الأفكار الإسلامية في كل لحظة وفي كل بقعة.

والشعائر الإسلامية التي أمر بها الرسول (ص) -التزاماً بأمر الله سبحانه- لهي خير وسيلة لجعل الناس يعيشون تلكم الأفكار على الدوام .

وهنا نخص بالذكر بعض الشعائر الإسلامية العامة ملتزمين الاختصار ومن يرد التفصيل فليراجع كتاب (طريق النجاة) للسيد الوالد - دام ظله -(*) ص34 إلى ص55 .

* القرآن: إنه الكتاب الأول للمسلمين ولا شك في أنه هو المفتاح الأول للحركة العالمية التي سببت إخراج الناس من الظلمات إلى النور(5)، وقد ركز رسول الله (ص) على تلاوة القرآن وتعليمه وتعلمه وحفظه والتدبر فيه، والقرآن يجمع بين دفتيه أصول الأفكار الإسلامية.

* الصلاة: إن الصلاة تجمع أصولاً كثيرة من الإسلام، وهي تجعل المسلم يعايش تلك الأصول في كل يوم مرات متعددة، فالأذان يجمع بين التوحيد والنبوة والولاية وذكر الله، وفيها أيضاً قراءة القرآن، والأذكار، إضافة إلى الاجتماع والتعارف والنظم في صلاة الجماعة، والوعظ والإرشاد في خطبة الجمعة.

* الخمس والزكاة: وفيهما مواساة الإخوان وإقامة المشاريع وقضاء حوائج المحتاجين، وإيجاد رابطة دينية بين مختلف فئات المجتمع.

* الحج: وهو أقوى مناسبة لجمع كلمة المسلمين، ولمّ شتاتهم، من كل أصقاع الأرض، وإسقاط الحدود بينهم، وإطلاعهم على بعضهم البعض.

* الصوم: وهو يضبط النفس ويعودها على الصبر والاستقامة وكسر الروتين اليومي الذي تعيشه، بشحنة إيمانية قوية توثق رابطتها بتعاليم الدين.

وليس مقصودنا هنا الإشارة إلى فلسفة هذه الشعائر، بل المقصود أن الرسول (ص) -وبأمر من الله تعالى- ربط المسلمين بالقيم والأفكار الإسلامية السامية في جميع الأوقات وبمختلف السبل، حتى يعايشوا هذه القيم ولكي تتجذر في نفوسهم.

وإن الإسلام هو أقوى الأديان وأكثرها تحريكاً لأتباعه، ولذا خطط الاستعمار لإبعادهم عن هذه الشعائر بمختلف الوسائل، محاولاً تقديم البدائل عنها، أو إفراغها من محتواها، لأنه -وكما ذكرنا- لا يخاف من شكل الطقوس بمقدار ما يخاف مما تكتنزه من أفكار وقيم لا يرغب في بقائها.

إن دراسة نهج الرسول (ص) في تحركه وفي فكره وأسلوبه، لا يمكن حصرها في صفحات معدودة لأن هذا النهج عظيم كعظمة صاحبه، وعميق كعمق فكره، لكنها محاولة متواضعة منا لإلقاء الضوء على بعض جوانب هذا النهج حسب تصورنا القاصر، لعل الله سبحانه يرزقنا إشراقة من إشراقاته، ولطف من ألطافه، والله المستعان.

* مقال نشر في مجلة النبأ-العدد 58-ربيع الاول1422/حزيران2001

............................................
الهـــوامـــش:
(1) الكافي ج1 ص267.
(2) الصراع الفكري ص76 (بتصرف).
(3) البحار ج20 ص207.
(4) الكافي ج5 ص568.
(5) طريق النجاة ص38.

اضف تعليق