q

ابتلي الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (سلام الله عليه) بأشخاص ذوي نفسيات وضيعة تردّ وتتطاول عليه، وهو الحاكم الأعلى الذي بايعته الأمة قاطبة، ناهيك عن كونه منصّباً من قِبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبأمر من العلي القدير، فكان (سلام الله عليه) يجيبهم ويترك لهم حرية الاعتقاد والتعبير.

وكان زنديق يُسمى بـ(ابن الكواء) يردّ على أمير المؤمنين (سلام الله عليه) حتى وإن كان على المنبر، ومع ذلك تركه (سلام الله عليه) وشأنه يعيش بسلام، ولم يتعرض له بسوء.

ويروى أن أمير المؤمنين (سلام الله عليه) خرج ذات ليلة من مسجد الكوفة، وقد مضى ربع الليل، وكان معه كميل بن زياد، وفي طريقهما طرق مسامعهما صوت حزين لرجل يتلو قوله (عز وجل): (أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون...).

فاستحسن كميل حال الرجل من غير أن يقول شيئاً، فالتفت إليه (عليه السلام)، وقال:

(يا كميل لا تعجبك طنطنة الرجل، إنه من أهل النار، وسأنبئك فيما بعد).

ومضى حين من الزمن، وقد آل أمر الخوارج إلى مقاتلة أمير المؤمنين (سلام الله عليه) في النهروان، التفت (سلام الله عليه) إلى كميل والسيف في يده يقطر دماً ورؤوس الخوارج على الأرض، فوضع رأس السيف على أحد الرؤوس، وقال يا كميل (أمّنْ هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً). وكان رأس ذلك الرجل.

إن حكومة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ضمنت للمعارضة حرية لم تصلها أكثر البلدان حرية اليوم، فقد استوعبت حتى الزنادقة ما لم تتآمر وترفع السيف، وذكر في كتب الحديث أن أمير المؤمنين (عليه السلام) هدده بعض الخوارج بالقتل، فتركه وشأنه.

لكن حينما تجمع "المعارضون" عسكرياً في النهروان لتهديد الأمن العام، وكانوا قد قتلوا عدداً من المدنيين غدراً، نهض (عليه السلام) ليقهر أعداء الدولة والمجتمع، فقتل الجيش العلوي -في بضع ساعات- ما يقارب عشرة آلاف من التكفيريين، بعد أن صمت آذانهم وصدأت قلوبهم عن الاستماع لمواعظ سيد البلاغة وإمام الكلام، الذي قال فيه سيد الأنبياء (صلى الله عليه وآله): (علي مع الحق، والحق مع علي، يدور معه حيثما دار).

من نهج الإمام أمير المؤمنين

منح أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الحريات للناس، في عصر كان العالم كله يعيش في ظل الاستبداد والفردية في الحكم، علماً بأنه (عليه السلام) كان رئيس أكبر حكومة لا نظير لها اليوم، سواء من حيث القوة أو العدد، فقد كان الإمام يحكم زهاء خمسين دولة من دول عالم اليوم.

وإن الذين خرجوا ضد الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب هم المنافقون الحقيقيون، ولكن سياسة الإمام (عليه السلام) التي هي سياسة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) والإسلام ومنهجهما في الحكم، هو أن لا يستخدم سيف التخويف، ولا يقال عن المعارضين للحكم أنهم منافقون، وإن كانوا هم منافقين حقاً! فمن أجل إدارة الحكومة، ومراعاة المصلحة الأهم، ومراعاة حال الأمة والمعارضين نهى الإمام (عليه السلام) أن يقال عنهم إنهم منافقون.

أراد أمير المؤمنين (عليه السلام) بنهجه الذي اكتفى فيه من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه.. تحقيق هدفين:

الأول: أن يبعد عنه أي شبهة كحاكم إسلامي، ويسلب منتقديه هؤلاء الذين أنكروا عليه حتى مناقبه أي حجة تدينه.

الثاني: تذكير الحكام المسلمين بمسؤولياتهم الخطيرة تجاه آلام الناس وفقرهم في ظل حكوماتهم، وضرورة إقامة العدل والتعاطف مع آلامهم وعذاباتهم، والسعي بجد من أجل تأمين الرفاهية والعيش الكريم لهم.

فإن مجرد احتمال وجود جياع في أبعد نقاط الحكومة الإسلامية، يعتبر في ميزان الإمام (عليه السلام) مسؤولية ذات تبعات، لذا فهو (عليه السلام) يؤكد للحكام ضرورة أن يجعلوا مستوى عيشهم بنفس مستوى عيش أولئك، وأن يشاركوهم شظف العيش.

فعلى الحكام، والقضاة، والرؤساء أن يطبقوا سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) في حياتهم الشخصية أولاً، لكي يأمن المجتمع من الظلم والحيف، ثم يطبقوا سيرته (عليه السلام) في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية وما إليها.

فإن السيرة العلوية المباركة طريق النجاح الى إقامة دولة العدل والإنسان والخير والسلام والمحبة والفضيلة والرفاه.

اضف تعليق