q

إن الانتقاء من أعمال الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) ومواقفه، سيكون ممتنعاً فعلاً، في استحالة الاختيار بين جوانب هذه الشخصية العظيمة الواسعة، بدء بالجهاد الذي تفرّد به، الذي لولا سيفه فيه لما قام الإسلام، ثم في الحكم والأحكام، وفي العلم والقضاء، ثم في جوانب الرأي والمنهج العقلي، والسلوك والأخلاق.

وقد قال عبد الله بن عباس: (لو أن الشجر أقلام، والبحر مداد، والإنس والجن كتاب وحساب، لما أحصوا فضائل أمير المؤمنين)، وفي ذلك أيضاً، قال الشافعي: (كيف تعد فضائل رجل أسرّ أولياؤه مناقبه خوفاً، وكتمها أعداؤه حقداً، ومع ذلك شاع منها ما ملأ الخافقين).

ولا عجب في ذلك، وقد قام الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بصناعة شخصية أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، ليجسد الإسلام بكامل أبعاده، وحرص على تقديمها للمجتمع الإسلامي، بل للإنسانية جمعاء.

ومن هنا، فإنه حرّي بالعقلاء من أيّ دين أو مذهب أو فكر، دراسة الشخصية العلوية وما يتبعها من إلزام في الأداء الديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني والثقافي، وفي المرتكزات الاستراتيجية للدولة ومؤسساتها.

ومن الأسباب الرئيسة للحاجة الماسة لدراسة شخصية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وتفريغها على الواقع المعاصر المعاش، هو اختلاف الفهم والإدراك للمعتقدات الدينية، التي باتت تشكل لدى بعض، تبريراً لأعمال العنف، فضلاً عن الفساد الذي ينخر في مختلف مفاصل الحياة، فبدلاً من أن تكون هذه المعتقدات، عوامل متقدمة للحل في الأزمات المعاصرة، أصبحت أحياناً تشكل تبريرات جاهزة للتجرؤ على المحرمات.

وإن سبب هذه الظاهرة الخطيرة على الإنسان والقيم، هو في سوء فهم هذه المعتقدات، وفي اختلاطها بين الحقيقي وبين الموضوع والملتبس فيها، في ظل اختلاف الفهم وتناقض الآراء، وكل ذلك على مرأى ومسمع من "همج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح".

والنتيجة هي فقدان الأمن في المجتمعات المسلمة، فضلاً عن استشراء الفساد وتضخم المفسدين، في مواقع الدولة، أو في مواقع الوجاهة الاجتماعية والثقافية والدينية وغيرها.

وعليه فإن بين أيدينا تراث الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو النموذج الذي يجسد الإسلام الصحيح، وهو الطريق الى الحياة الطيبة، والذي ينبغي أن يُدرس بوعي وعزم، وأنْ يُعمم بلغة معاصرة، والسعي الى تطبيقه على أرض الواقع، بكامل أبعاده، على مستوى الفرد والمجتمع والدولة، هذا إذا أردنا أن ننجح، وليس لنا إلا أن ننجح، وإلا فالهلاك، (وَمَا كَانَ رَبّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىَ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ).

من كتابات الإمام الشيرازي الراحل

كلنا نعرف الداء، وإنما الخلاف في الإصلاح، فالأغلبية ترى أنه غير ممكن، ولهم حجج في ذلك منها:

أن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) مع اهتمامه بالإصلاح لم يتمكن من ذلك، مع أنه كان مثالاً للعدالة والعلم والشجاعة، ولكل شيء كريم، كما أنه كان بصيراً بمواقع الأمور ومصادرها.

أو إن زمننا هذا هو الزمن الذي أخبر به النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وآله (عليه السلام)، بكونه آخر الزمان، ولابد أن يقع ما وقع، ولن تجد لمشيئة الله تعالى تحويلاً.

أو إن الخرق قد اتسع على الراقع، فلا يفيد الكلام، ولا الصراخ. أو إننا لا نتمكن من إصلاح أنفسنا فكيف نتمكن من إصلاح غيرنا.

كل فكرة وكل نهضة كانت مهددة في بدو أمرها بكل ذلك، ولاقت كل تلك المتاعب والمصاعب، ومع ذلك فقد نجح كثير منها، مع أن ما يذكرونه بعيد عن الصواب، فان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وُفّق للإصلاح تمام التوفيق، إذ ليس شرط الإصلاح أن يستتب الأمر له في زمان حياته، ولو نظرنا إلى ما بذره أمير المؤمنين (عليه السلام)، لرأينا غابته الشجراء التي تكونت ببركة بذرته، ولا تزال تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

وحديث كون الوقت آخر الزمان، فلا يدعمه شاهد، وقد ظن كل قوم هذا بزمانهم.

ومن يقول: لا ينفع كلام وعظة، فهل يدعم كلامه دليل؟ وهل كل هذا الأثر الباقي إلا من الكلام والعظة؟!

ولا كلام لنا بمن لا يتمكن من إصلاح نفسه، فهو بمعزل عن مدار الكلام، وإنما نطاق الحديث يدور على من يزعمون الإصلاح.

اضف تعليق